وقال قوم: هو المصالح الْمُرْسَلَة، ونحو ذلك من عمل القول والتَّلازم ونحوهما، وقد علمت توارد "اسْتَفْعَلَ" في اللُّغَة. وعندي أن المَقْصُود منها في مصطلح الأُصُوليِّين الاتِّخَاذ، والمعنى أن هذا باب ما اتَّخَذُوهُ دليلًا، والسِّرُّ في جعل هذا الباب مُتَّخَذًا دون الكِتَاب والسُّنَّةِ والإجماع والقياس؛ لأنَّ تلك الأدِلَّة قام القَاطِعُ عليها، ولم يتنازع المعتبرون في شَيْءٍ منها، وكَأَنَّ قيامها لم ينشأ عن صنِيعِهِم واجتهادهم، بل أَمْرٌ ظاهِرٌ.
وأَمَّا ما عُقِدَ له هذا الباب، فهو شيء قاله كلُّ إِمَامٍ بِمُقْتَضَى تَأْدِيَةِ اجتهاده، فكأنَّهُ اتَّخَذَهُ دليلًا، كما تَقُول: الشَّافِعِيُّ يستدلُّ بالاستصْحَاب، ومَالِكُ بالمَصَالِح الْمُرْسَلَةِ، وأبُو حَنِيفَةَ بالاستحسان، أي: يَتَّخِذُ من كلامهم ذلك دليلًا، كما تقول: يُحْتَجُّ بِكَذا، وهذا معنىً مليحٌ في سبب تَسْمِيته بـ "الاستدلال"، واخْتُلِفَ في تعريفه، فَقِيلَ: ما ليس بنصٍّ ولا إجماع ولا قياس، وقيل: ما ليس بنصٍّ ولا إجماع ولا قياس عِلَّةٍ، فيدخل تحت الاستدلال حِينَئِذٍ نَفْيُ الْفَارِق، وهو الَّذِي سمَّاه:"القياس في معنى الأصل".
والتلازم أي: قياس التلازم، وهو إثبات أحَدِ موجِبي الْعِلَّةِ بالآخَرِ لتلازمهما، وهو الذي سمَّاهُ "قياس الأدِلَّةِ"، فإذن التعريف الأوَّلُ أخَصّ، وقال: هذا إنما عرفناه بسلب غيره من الأَدِلَّةِ عنه دون العِلَّتَيْنِ؛ لِتقَدُّمِ مَعْرِفَةِ تلك الأدِلَّةِ، فيكون ذلك تعريفًا لِلْأَخْفَى بِالْأعْرَفِ، بخلاف الْعَكْسِ، فإنَّه لم يتقدم للاستدلال ذكر، فيكون تَعْرِيفًا بالمجهول.
الشرح:"وأمَّا نَحْوُ" فأكثر من قول الفقهاء: "وجد السَّبَبُ"، فيُوجَدُ الحُكْمُ "أو المَانِعُ" فَيَنْتَفِي، "أو فُقِد الشَّرط" فينتفي أيضًا، "فقيل": ليس بدليلٍ، وإنما هو "دَعْوى دليل"، وهو بمثابة قولك: وُجِدَ دليل الحكم فوجد، وهذه دَعْوى لا تُسْمَعُ ما لم يعين الدَّليل المُدَّعَى أَنَّه موجود، فينبغي أن يُعَيّنَ الدَّليل المستلزم للحكم، وهو السَّبب الخاصّ، أو وجود المانع، أو انتفاء الشَّرط الخاصين، "وقيل": بل هو "دليل"؛ لأنَّ الدَّليل ما يلزم منه الحكم قطعًا أو ظنًّا، وهو كذلك، "وعلى" تقدير "أنَّه دليل قيل": إنه "استدلال"؛ لأنه ليس بنصٍّ ولا إجماع ولا قياس.