والحاصل أنه لا حكم عند هؤلاء المحققين إلا من خطاب الله اللفظي، فما لم يرسل الله رسولًا وينزل عليه كتابًا فليس هنالك أمر ولا نهي ولا حكم مهما أدرك العقل من المصالح أو المفاسد في الأفعال - وخلاصة مذهبهم أنهم يقولون إنه لا بد أن يكون الفعل المأمور به قبل أن يؤمر به صالحًا للأمر به بأن تكون فيه مصلحة تقتضي حسنه وتجعله صالحًا لأن يكون مناطًا للمدح والثواب على الفعل والذم والعقاب على الترك، ولا بد أن يكون الفعل المنهي عنه قبل أن ينهى عنه صالحًا للنهي عنه بأن يكون فيه مفسدة تقتضي قبحه وجعله صالحًا لأن يكون مناطًا للعقاب على الفعل والثواب على الكف عنه. هذا ما ذهب إليه المتاخرون. وذهب المتقدمون منهم كالشبخ أبي منصور ومن تبعه - وهم أكثر مشايخ سمرقند - ووافقهم البعض فيما ذهبوا إليه - كالإمام فخر الإسلام وصدر الشريعة - أقول: ذهب هؤلاء إلى موافقة المعتزلة في استلزام إدراك الحسن والقبح الحكم قبل مجيء الشرع. لكن مواققتهم للمعتزلة لا في جميع الأحكام بل في البعض، فقالوا: إن العقل قد يستقل في إدراك بعض أحكامه تعالى، وذلك كوجوب الإيمان وحرمة الكفر. لم يلق هؤلاء المتقدمون القول على عواهنه فيما ذهوا إليه بل كان لهم عضد في ذلك من كلام إمامهم؛ إذ استندوا في ذلك إلى ما رواه الحاكم في المنتقى عن الإمام الهمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه قال: "لا عذر لأحد في الجهل بخالقه لما يرى من خلق السموات والأرض وخلق نفسه" - ولما روي عنه أيضًا إذ قال: لو لم يبعث الله رسولًا لوجب على الخلق معرفته بعقولهم. وقد علق صاحب فواتح الرحموت على الرواية الأولى بقوله: لعل المراد بقول الإمام: لا عذر إلخ الرواية أي بعد مضي مدة التأمل؛ فإن التأمل بمنزلة دعوة الرسول في تنبيه القلب، وقد نبه صاحب المسلّم على أن هذا التوجيه للرؤية قد أشار إليه الإمام فخر الإسلام ناقلًا عباراته في ذلك، فقال حيث قال - أعني الإمام -: ومعنى قولنا: أنه يكلف بالعقل يريد به أنه إذا أَعانه بالتجربة مولاه وأمهله لدرك العواقب لم يكن معذورًا وإن لم تبلغه الدعوة على نحو ما قال أبو حنيفة في السفيه إذا بلغ خمسًا وعشرين سنة لا يمنع منه ماله؛ لأنَّهُ قد استوفى مدة التجربة، فلا بد أن يزداد رشدًا، ثم قال: وليس على الحد في هذا الباب دليلٌ قاطع. =