وفرع على هذا التوجيه أن من لم تبلغه الدعوة لو لم يعتقد شيئًا من الكفر والإيمان في ابتداء العقل كان معذورًا، لأنَّهُ لم تمض عليه مدة التأمل - ولو اعتقد الكفر لم يكن معذورًا لأنه اعتقاد جانب يدل دلالة واضحة على أنه ترك الإيمان مع القدرة على تحصيله بالتأمل، وأنه تأمل فاختار الكفر. هذا هو مذهب المتقدمين من الحنفية في تلك المسألة وما استندوا إليه من أقوال إمامهم. ولنرجع مرة أخرى إلى المتأخرين لتتعرف رأيهم في أقوال إمامهم، وكيف انتحوا ناحية مخالفة لظاهر تصاريحه. فنقول: إن ابن عين الدولة نقل عن المتأخرين رأيهم في رواية (لا عذر) لأبي حنيفة بما حاصله أنها في شأن ما بعد البعثة. إذ قال: أئمة بخارى الذين شاهدناهم كانوا على القول بعدم وجوب شيء أو تحريم شيء وحكموا بأن المراد من رواية ألا عذر لأحد في الجهل بخالقه إلخ الرواية بعد البعثة. هذا رأيهم بالنسبة إلى تلك الرواية، ولا شكَّ أن هذا الحمل لا يمكن بالنسبة لرواية: لو لم يبعث الله رسولًا لوجب على الخلق معرفته بعقولهم، بل إن تلك الرواية تكاد تجعل الحما في الرواية الأولى على ما بعد البعثة بعيدًا عما أراده أبو حنيفة منها. وقد حاول البعض الإجابة عن تلك بما هو جدير بالاعتبار لولا أن ظاهر اللفظ لا يعطيه؛ إذ قال ذلك المجيب: إن المراد بالوجوب في تلك الرواية الوجوب العرفي بمعنى الذي هو أولى. هذا على أنى لا أرى موجبًا لتحمل أجوبة لا تكاد تنفع تبريرًا لما ذهبوا إليه في تلك المسألة؛ إذ ما المانع من مخالفة رأي إمامهم في تلك المسألة إذا كان ذلك ما ذهب إليه ولكننا نعود فنقول: هذا ما وقع منهم. يفهم مما تقدم أن النزاع في مسألة الحسن والقبح وما جرت إليه من استلزام الحكم وعدم استلزامه يتلخص في أن هناك أربعة مذاهب: الأول: مذهب الشيخ أبي الحسن ومن تبعه، وحاصله أن الحسن والقبح في الأفعال شرعي، وكذا الحكم. المذهب الثاني: أنهما عقليان، وهما مناطان لتعلق الحكم من الحكيم، فإذا أدركا في فعل أي فعل كان تعلق الحكم من الله تعالى بذمة العبد بالنسبة إلى ذلك الفعل، وهو مذهب المعتزلة. الثالث: أنهما عقليان، ومناطان لتعلق الحكم من الله تعالى في ذمة العبد عند إدراكهما في بعض الأفعال دون البعض وهو مذهب أبي منصور ومن نحا نحوه من متقدمي الحنفية إلا أنه لا تجب العقوبة بحسب القبح العقلي كما لا تجب بعد ورود الشرع لاحتمال العفو، بخلاف المعتزلة بناء على وجوب العدل عندهم. الرابع: أنهما عقليان، وليسا موجبين للحكم ولا كاشفين عن تعلقه بذمة العبد، وهو مختار =