للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَأُجِيبَ عَنْهُمَا بِالْوُقُوعِ فَإِنَّا قَاطِعُونَ بِتَوَاتُرِ النَّقْلِ بِتَقْدِيمِ النَّصِّ الْقَاطِعِ عَلَى المَظْنُونِ.

لا نمنع ذلك، وإنما نمنع تصوّر نقله، "فنقله مستحيلٌ عادة؛ لأن الآحاد لا تفيد (١) "العلم بوقوعه، "والتواتر بعيد".

"وأجيب عنهما" - أي: عن الدليلين الصَّادرين من القائلين: "الدالُّ أحدهما على استحالة الثبوت، والثاني على اسْتِحَالَةِ النقل" - "بالوقوع" وقوعِ الإجْمَاع - وهو نقض إجمالي - وتقريره: لو كان ما ذكرتم صحيحًا لما وقع؛ لكنه واقع، "فإنا قاطعون بتواتر النَّقل بتقديم النَّص القاطع على المَظْنُون" من جميع الأمة؛ فاندفع ما تَخَيَّلتموه.


= يوافق هوى المستفتى، ويزجيه إليه زاعمًا أن الفتيا بالقول المخالف لهواه تشديد عليه وحرج في حقه، وأن الخلاف بين الأئمة قديمًا وحديثًا إنما فصد به الرحمة والتيسير لهذه الأمة. ولعتقد أنه لا واسطة بين التشديد والتخفيف، وهذا قلب للمعنى المقصود للشريعة، وإبطال للحقائق التي تنجلي في نصوصها؛ فإن الإعراض عن الهوى في الفتيا ليس من المشقة التي يترخص بسببها، والخلاف إنما جعل رحمة من المشقة التي تخرج عن طوق البشر فينقطع عن العمل بسببها؛ فإن أفضل العمل ما داوم عليه صاحبه وإن قل، ولن يكون ذلك إلا بالتوسط. وجملة القول أن الشارع سلك بنا ما يحقق مقصوده، فلا هو أثقلنا بما يرهقنا؛ لأنه أقرب إلى الانقطاع عن العمل منه إلى المداومة عليه، ولا هو تدلى بنا إلى مطلق التخفيف؛ لأن الثواب على قدر المشقة. ولا ريب أن كل عمل لا يخلو من أصل المشقة، وإلا لزم ارتفاع مطلق التكليف؛ لأن فيه حرجًا ومشقة.
قال بعض الأصوليين: وينبغي أن يكون عارفًا من اللغة والنحو ما يفهم به مراد الله تعالى ورسوله في خطابهما، ويعرف كذلك أحكام أفعال رسول الله وما تتضمن، وأن يكون عالمًا بإجماع السلف وخلافهم وما يعتد به من ذلك وما لا يعتد به، ويعرف القياس والاجتهاد والأصول التي يجوز تعليلها، وما لا يجوز الأوصاف التي يعلل بها وما لا يعلل بها، وكيفية انتزاع العلل وترتيب الأدلة بتقديم الأولى منها؛ ووجوه الترجيح وغير ذلك. كما يجب أن يكون ثقة مأمونا على الدين.
قال الإمام النووي: وينبغي أن يكون المفتي ظاهر الورع مشهورًا بالديانة الظاهرة والصيانة الباهرة. ثم قال: وشرطه كذلك أن يكون ثقة مأمونًا منزهًا عن الفسق وخوارم المروءة، فقيه النفس، سليم الذهن رصين الفكر صحيح النظر، والاستنباط متيقظًا، وسواء فيه الحر والعبد والمرأة والأعمى، والأخرس إذا كتب أو فهمت إشارته.
وقال ابن الصلاح: وينبغي أن يكون كالراوي في أنه لا يؤثر فيه قرابة أو عداوة ولا جر نفع أو دفع ضر، لا كالشاهد؛ لأنه مخبر عن الشرع بما لا اختصاص له بشخص؛ فكان كالراوي لا كالشاهد.
(١) في ب، ح: يفيد.

<<  <  ج: ص:  >  >>