ومما ينبغي أن نقوله هاهنا إن التهديد الذي حكته كتب التاريخ والسير من تهديد عمر وأبي بكر لم يقع على وجه التحقيق. فما كان الخِبُّ الذي يُمَوِّهُ على الناس بهذا الأسلوب الفج المكشوف، أو الذي يتظاهر بالبيعة لابن الجرَّاح ليغطى ميله لأبي بكر، وميله كتاب مفتوح، واضح العبارة منقوط الأحرف لا يمكن أن يخفيه عن نظرة معاصريه مخادعة ولا تمويه. ولم يقع أيضًا أبي بكر ما يُحْملُ كبرهان على وقوع هذا التهديد، سواء أتم لحظة اجتماع السقيفة أم قبله في نفس النهار، ولا عبرة هنا بالاحتجاج بما أورده رواة الأخبار من خروجه إلى الناس من حجرة الرسول وردعه عمر عن وعيده المقول. والحق أن ما نسب إلى أبي بكر من قول في ذلك المقام لا يمكن بحال من الأحوال اعتباره برهانًا على وقوفه في وَجْه التهديد، ورفضه انتفاء الوفاة، إنما هو أدنى إلى أن يفسر لنا تأثُّرَه الشديد بما كانت جزيرة العرب قد أخذت تموج به من انتفاضات الرِّدَّة، وحركات الامتناع عن أداء الزكاة، إذ انتهزت القبائل عندئذ مرض سيدنا محمد ﷺ ثم خُلُوَّ الميدان السياسي من شخصيته الآسرة لتتحرر من سلطان "المدينة"، أو الحكومة المركزية، ولتتحلل من حياة التوحُّد عَوْدةً إلى حياة الانقسام، والفوضى والانفلات التي كانت تعيشها قبل الإسلام. فكان ما أراد الله ﷿ بتولي الصديق رفيق النبيّ ﷺ. (١) غياث بن غوث بن الصلت بن طارقة بن عمرو، صديق تغلب، أبو مالك: شاعر، مصقول الألفاظ، حسن الديباجة، في شعره إبداع. اشتهر في عصر بني أمية بالشام، وأكثر من مدح ملوكهم، وهو أحد الثلاثة المتفق على أنهم أشعر أهل عصرهم (جرير والفرزدق والأخطل). نشأ على المسيحية، في أطراف الحيرة "العراق"، وتهاجى مع جرير والفرزدق. كان معجبًا بأدبه، تيَّاهًا، كثير العناية بشعره. ولد سنة ١٩ هـ وتوفي سنة ٩٠ هـ. ينظر: الشعر والشعراء ١٨٩، وشرح شواهد المغني ٤٦، والأعلام ٥/ ١٢٣. (٢) البيت ليس في ديوانه، ينظر: ابن يعيش ١/ ٢٢، والشذور ٢٨.