وفي الفرار من العدو عار يجعل الحياة بغيضة عند النفوس الأبيّة قال يزيد بن المهلّب: "واللّه إني لأكره الحياة بعد الهزيمة". قال بعض العلماء: إن هذا النهي خاصّ بوقعة بدر، وبه قال نافع، والحسن، وقتادة، ويزيد بن أبي حبيب، والضحاك، ونسب إلى أبي حنيفة كما حكاه القرطبي. وقال الجمهور - وهو المروى عن ابن عبّاس -: إن تحريم الفرار من الصف عند الزحف باقٍ إلى يوم القيامة في كل قتال يلتقى فيه المسلمون والكفار. استدل الأوّلون بقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ فقالوا: إن الإشارة في قوله تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ إلى يوم بدر، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: ﴿الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا﴾. وقد ردّ الجمهور عليه بأن الإشارة فيه إلى يوم الزحف الذي تضمنه قوله تعالى: ﴿إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ﴾ أي كل مرة تلقون فيها الكفار يحرم عليكم الفرار منهم، وحكم الآية باقٍ بشرط الضِّعف الذي بينه الله تعالى في قوله: ﴿فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ﴾ الآية - والذي يؤيد أن الإشارة عامة في كل زحف أن الآية نزلت بعد انقضاءِ الحرب وذهاب اليوم بما فيه. واستدل الجمهور بقوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ﴾ وقوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ وقالوا: إن الآيات عامّة في كل زحف، وليست خاصّة بغزوة بدر دل على ذلك ما صَحَّ في مسلم عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: "اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقَاتِ" وَعَدَّ منها الفرار يوم الزحف؛ فدلّ على حرمته في كل زحف وزمان، غير أن هذه الحرمة مقيدة بأمرين: أحدهما: ما دل عليه قوله تعالى: ﴿إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ﴾ فإنه متى قصد أحد هذين الأمرين من الفرار لم يكن محرمًا، بل قد يكون واجبًا إذا اقتضته المصلحة كضمّ قوة المسلمين بعضها إلى بعض - ثانيهما - عدم زيادة الكفار على ضعف عدد المسلمين، أما إذا زادوا على الضعف فاختلف الفقهاء في حكمه: فذهب الشافعية والحنابلة إلى جواز الفرار مطلقًا. =