ومن عادته أنه يذكر أحياناً المادة اللغوية في غير مكانها الاشتقاقى مراعاة لظاهر اللفظ، ولكنه ينبّه على ذلك حتى لا يظنّ القارىء أنه مخطىء، وسبب ذلك أنّ طلبة غريب الحديث يلتبس عليهم موضع اللفظ الأصلى، لأنهم لا يكادون يفرقون بين الأصلى والزائد، فقد ذكر مثلا كلمة "الإِبْرِدَة، في (أبرد). وقال: وهمزتها زائدة، وإنما أوردناها هنا حملا على ظاهر لفظها. وكلمة "خُوّة" الإسلام، وهي لغة في الأخوة، ذكرها في مادة (خور) وليس هذا موضعها، وإنّما ذكرها لظاهر لفظها. وموضعها مادة (أخو)، وهو في هذا جارٍ على ما نبّه عليه في المقدّمة بقوله:
"وخرجت كتابى على ترتيب كتاب أبى عبيد سواء بسواء، وسلكت طريقه حَذوَ النّعل بالنّعل في إخراج الكلمة في الباب الذي يليق بظاهر لفظها".
ولقد رأيت أبا موسى يتقصى شرح بعض الأحاديث المحتاجة لهذا الاستقصاء، فيبينها تبيينا غير تارك أي مجال لقول بعده، راجع مادة (جذم)، وحديث: "إنَّ وفدَ ثقيف كان فيهم مجذوم، فأرسل إليه، ارجع فقد بايعناك" وفي رواية: "فقد بايعتك" فقد استوفى الشرح في ثلاثة أوجه محتملة، وعقب بكلام للأصمعى متصل بالمعنى ومبرر له.
كما رأيته النحوى القدير حينما تَعرِض له مشكلة نحوية تتطلب الرأى. راجع مادة (جذع)، وحديث ورقة بن نوفل: "يا ليتنى فيها جَذَعاً". قال: إنما انتصب على الحال من الضمير الذي في الظرف، تقديره: يا ليتنى ثابت فيها جَذَعاً، أَو حَىٌّ فيها جَذَعا، كما قال تعالى:{فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا}(١).
ومنهم من قال: إنما انتصب بإضمار كان فيه، فقيل: إنه غير مصيب في هذا القول، لأنّ كان الناقصة لا تضمر - وأَمّا قولهم: "إنْ خَيْراً فَخَيْرٌ، فإنمّا جاز تقديره بإن كان خيراً فخير، لأنّ لفظ "إن" يقتضى الفعل بكونه شرطاً، وأنشَد لهُ دُرَيْد ابن الصِّمَّة: