وَقُرَيْشٍ ثُمَّ أَغَارَتْ سَرَايَاهُ عَلَى أَهْلِ نَجْدٍ حَتَّى تَوَقَّى النَّاسُ لِقَاءَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَوْفًا لِلْحَرْبِ دُونَهُ مِنْ سَرَايَاهُ وَإِعْدَادِ مَنْ يُعِدُّ لَهُ مِنْ عَدُوِّهِ بِنَجْدٍ فَمَنَعَتْ مِنْهُ قُرَيْشٌ أَهْلَ تِهَامَةَ وَمَنَعَ أَهْلُ نَجْدٍ مِنْهُ أَهْلَ نَجْدٍ الْمَشْرِقِ ثُمَّ اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عُمْرَةَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي أَلْفٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ فَسَمِعَتْ بِهِ قُرَيْشٌ فَجَمَعَتْ لَهُ وَجَدَّتْ عَلَى مَنْعِهِ وَلَهُمْ جُمُوعٌ أَكْثَرُ مِمَّنْ خَرَجَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَدَاعَوْا الصُّلْحَ فَهَادَنَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى مُدَّةٍ، وَلَمْ يُهَادِنْهُمْ عَلَى الْأَبَدِ»؛ لِأَنَّ قِتَالَهُمْ حَتَّى يُسْلِمُوا فَرْضٌ إذَا قَوِيَ عَلَيْهِمْ وَكَانَتْ الْهُدْنَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ عَشْرُ سِنِينَ وَنَزَلَ عَلَيْهِ فِي سَفَرِهِ فِي أَمْرِهِمْ {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَمَا كَانَ فِي الْإِسْلَامِ فَتْحٌ أَعْظَمَ مِنْهُ كَانَتْ الْحَرْبُ قَدْ أَحْرَجَتْ النَّاسَ فَلَمَّا أَمِنُوا لَمْ يَتَكَلَّمْ بِالْإِسْلَامِ أَحَدٌ يَعْقِلُ إلَّا قَبِلَهُ فَلَقَدْ أَسْلَمَ فِي سِنِينَ مِنْ تِلْكَ الْهُدْنَةِ أَكْثَرُ مِمَّنْ أَسْلَمَ قَبْلَ ذَلِكَ ثُمَّ نَقَضَ بَعْضُ قُرَيْشٍ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ غَيْرُهُ إنْكَارًا يُعْتَدُّ بِهِ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَعْتَزِلْ دَارِهِ فَغَزَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ الْفَتْحِ مُخْفِيًا لِوَجْهِهِ لِيُصِيبَ مِنْهُمْ غُرَّةً.
(قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -): وَكَانَتْ هُدْنَةُ قُرَيْشٍ نَظَرًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْمُسْلِمِينَ لِلْأَمْرَيْنِ اللَّذَيْنِ وَصَفْتُ مِنْ كَثْرَةِ جَمْعِ عَدُوِّهِمْ وَجَدِّهِمْ عَلَى قِتَالِهِ، وَإِنْ أَرَادُوا الدُّخُولَ عَلَيْهِمْ وَفَرَاغَهُ لِقِتَالِ غَيْرِهِمْ وَأَمِنَ النَّاسُ حَتَّى دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ قَالَ: فَأُحِبُّ لِلْإِمَامِ إذَا نَزَلَتْ بِالْمُسْلِمِينَ نَازِلَةٌ وَأَرْجُو أَنْ لَا يُنْزِلَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِمْ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مُهَادَنَةً يَكُونُ النَّظَرُ لَهُمْ فِيهَا، وَلَا يُهَادِنُ إلَّا إلَى مُدَّةٍ، وَلَا يُجَاوِزُ بِالْمُدَّةِ مُدَّةَ أَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ كَانَتْ النَّازِلَةُ مَا كَانَتْ فَإِنْ كَانَتْ بِالْمُسْلِمِينَ قُوَّةٌ قَاتَلُوا الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ فَإِنْ لَمْ يَقْوَ الْإِمَامُ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُجَدِّدَ مُدَّةً مِثْلَهَا أَوْ دُونَهَا، وَلَا يُجَاوِزُهَا مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلْمُسْلِمِينَ وَالضَّعْفَ لِعَدُوِّهِمْ قَدْ يَحْدُثُ فِي أَقَلَّ مِنْهَا، وَإِنْ هَادَنَهُمْ إلَى أَكْثَرَ مِنْهَا فَمُنْتَقَضَةٌ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْفَرْضِ قِتَالُ الْمُشْرِكِينَ حِينَ يُؤْمِنُوا، أَوْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَذِنَ بِالْهُدْنَةِ فَقَالَ: {إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} وَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ} فَلَمَّا لَمْ يَبْلُغْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمُدَّةٍ أَكْثَرَ مِنْ مُدَّةِ الْحُدَيْبِيَةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُهَادِنَ إلَّا عَلَى النَّظَرِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَجَاوُزَ.
(قَالَ): وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يُهَادِنَ الْقَوْمَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ عَلَى النَّظَرِ إلَى غَيْرِ مُدَّةٍ هُدْنَةً مُطْلَقَةً، فَإِنَّ الْهُدْنَةَ الْمُطْلَقَةَ عَلَى الْأَبَدِ وَهِيَ لَا تَجُوزُ لِمَا وَصَفْت، وَلَكِنْ يُهَادِنُهُمْ عَلَى أَنَّ الْخِيَارَ إلَيْهِ حَتَّى إنْ شَاءَ أَنْ يَنْبِذَ إلَيْهِمْ فَإِنْ رَأَى نَظَرًا لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَنْبِذَ فَعَلَ، فَإِنْ قَالَ: قَائِلٌ فَهَلْ لِهَذِهِ الْمُدَّةِ أَصْلٌ؟ قِيلَ: نَعَمْ «افْتَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمْوَالَ خَيْبَرَ عَنْوَةً وَكَانَتْ رِجَالُهَا وَذَرَارِيّهَا إلَّا أَهْلَ حِصْنٍ وَاحِدٍ صُلْحًا فَصَالَحُوهُ عَلَى أَنْ يُقِرَّهُمْ مَا أَقَرَّهُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَيَعْمَلُونَ لَهُ وَلِلْمُسْلِمِينَ بِالشَّطْرِ مِنْ الثَّمَرِ».
فَإِنْ قِيلَ: فَفِي هَذَا نَظَرٌ لِلْمُسْلِمِينَ؟ قِيلَ: نَعَمْ كَانَتْ خَيْبَرُ وَسَطَ مُشْرِكِينَ وَكَانَتْ يَهُودُ أَهْلِهَا مُخَالِفِينَ لِلْمُشْرِكَيْنِ وَأَقْوِيَاءَ عَلَى مَنْعِهَا مِنْهُمْ وَكَانَتْ وَبِئَةً لَا تُوطَأُ إلَّا مِنْ ضَرُورَةٍ فَكَفَوْهُمْ الْمُؤْنَةَ، وَلَمْ يَكُنْ بِالْمُسْلِمِينَ كَثْرَةٌ فَيَنْزِلُهَا مِنْهُمْ مَنْ يَمْنَعُهَا فَلَمَّا كَثُرَ الْمُسْلِمُونَ «أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِجْلَاءِ الْيَهُودِ عَنْ الْحِجَازِ» فَثَبَتَ عِنْدَ عُمَرَ ذَلِكَ فَأَجْلَاهُمْ، فَإِذَا أَرَادَ الْإِمَامُ أَنْ يُهَادِنَهُمْ إلَى غَيْرِ مُدَّةٍ هَادَنَهُمْ عَلَى أَنَّهُ إذَا بَدَا لَهُ نَقْضُ الْهُدْنَةِ فَذَلِكَ إلَيْهِ وَعَلَيْهِ أَنْ يُلْحِقَهُمْ بِمَا مِنْهُمْ. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ لَا يَقُولُ مَا أَقَرَّكُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ؟ قِيلَ: لِلْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَنَّ أَمْرَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَانَ يَأْتِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْوَحْيِ، وَلَا يَأْتِي أَحَدًا غَيْرَهُ بِوَحْيٍ.
(قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -): وَمَنْ جَاءَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ يُرِيدُ الْإِسْلَامَ فَحَقٌّ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُؤْمِنَهُ حَتَّى يَتْلُوَ عَلَيْهِ كِتَابَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَيَدْعُوَهُ إلَى الْإِسْلَامِ بِالْمَعْنَى الَّذِي يَرْجُو أَنْ يُدْخِلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} الْآيَةُ.
(قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -): وَمَنْ قُلْت يَنْبِذُ إلَيْهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute