فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ} وَقَالَ {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ يَذْكُرُ مَا حَرَّمُوا {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ} إلَى قَوْلِهِ {حَكِيمٌ عَلِيمٌ} {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا} الْآيَةَ وَقَالَ {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ} الْآيَةَ وَالْآيَتَيْنِ بَعْدَهَا فَأَعْلَمَهُمْ جَلَّ ثَنَاؤُهُ، أَنَّهُ لَا يُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ مَا حَرَّمُوا. وَيُقَالُ: نَزَلَتْ فِيهِمْ {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ} فَرَدَّ إلَيْهِمْ مَا أَخْرَجُوا مِنْ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِ وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهُ لَمْ يُحَرِّمْ عَلَيْهِمْ مَا حَرَّمُوا بِتَحْرِيمِهِمْ.
وَقَالَ {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مِنْ الْمَيْتَةِ. وَيُقَالُ: أُنْزِلَ فِي ذَلِكَ {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} إلَى قَوْلِهِ {فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} وَهَذَا يُشْبِهُ مَا قِيلَ يَعْنِي {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} أَيْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ إلَّا مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا مِنْهَا وَهِيَ حَيَّةٌ أَوْ ذَبِيحَةُ كَافِرٍ. وَذَكَرَ تَحْرِيمَ الْخِنْزِيرِ مَعَهَا وَقَدْ قِيلَ: مَا كُنْتُمْ تَأْكُلُونَ إلَّا كَذَا. وَقَالَ {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالا طَيِّبًا} إلَى قَوْلِهِ {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي مِثْلِ مَعْنَى الْآيَةِ قَبْلَهَا.
مَا حَرُمَ بِدَلَالَةِ النَّصِّ
(قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -): قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} فَيُقَالُ يُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ عِنْدَهُمْ، وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ عِنْدَهُمْ. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} وَكَانَ الصَّيْدُ مَا امْتَنَعَ بِالتَّوَحُّشِ كُلُّهُ، وَكَانَتْ الْآيَةُ مُحْتَمِلَةً أَنْ يَحْرُمَ عَلَى الْمُحْرِمِ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ صَيْدٍ، وَهُوَ يُجْزِي بَعْضَ الصَّيْدِ دُونَ بَعْضٍ.
فَدَلَّتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَنَّ مِنْ الصَّيْدِ شَيْئًا لَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ جَزَاؤُهُ كُلُّ مَا يُبَاحُ لِلْمُحْرِمِ قَتْلُهُ. وَلَمْ يَكُنْ فِي الصَّيْدِ شَيْءٌ يَتَفَرَّقُ إلَّا بِأَحَدِ مَعْنَيَيْنِ، إمَّا بِأَنْ يَكُونَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَرَادَ أَنْ يَفْدِيَ الصَّيْدَ الْمُبَاحَ أَكْلُهُ وَلَا يَفْدِيَ مَا لَا يُبَاحُ أَكْلُهُ، وَهَذَا أَوْلَى مَعْنَيَيْهِ بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَصِيدُونَ لِيَأْكُلُوا، لَا لِيَقْتُلُوا، وَهُوَ يُشْبِهُ دَلَالَةَ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} وَقَالَ {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} فَذَكَرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إبَاحَةَ صَيْدِ الْبَحْرِ لِلْمُحْرِمِ وَمَتَاعًا لَهُ، يَعْنِي طَعَامًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، ثُمَّ حَرَّمَ صَيْدَ الْبَرِّ فَأَشْبَهَ أَنْ يَكُونَ إنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْهِ بِالْإِحْرَامِ مَا كَانَ أَكْلُهُ مُبَاحًا لَهُ قَبْلَ الْإِحْرَامِ، ثُمَّ أَبَاحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَقْتُلَ الْغُرَابَ، وَالْحِدَأَةَ. وَالْفَأْرَةَ، وَالْكَلْبَ الْعَقُورَ، وَالْأَسَدَ، وَالنَّمِرَ، وَالذِّئْبَ الَّذِي يَعْدُو عَلَى النَّاسِ، فَكَانَتْ مُحَرَّمَةَ الْأَكْلِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذْ نَهَى عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ، فَكَانَ مَا أُبِيحَ قَتْلُهُ مَعَهَا، يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مُحَرَّمَ الْأَكْلِ لِإِبَاحَتِهِ مَعَهَا، وَأَنَّهُ لَا يَضُرُّ ضَرَرُهَا، وَأَبَاحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَكْلَ الضَّبُعِ، وَهُوَ أَعْظَمُ ضَرَرًا مِنْ الْغُرَابِ وَالْحِدَأَةِ وَالْفَأْرَةِ أَضْعَافًا، وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنْ يَقْتُلَ الْمُحْرِمُ مَا ضَرَّ، وَلَا يَقْتُلَ مَا لَا يَضُرُّ، وَيَفْدِيهِ إنْ قَتَلَهُ، وَلَيْسَ هَذَا مَعْنَاهُ. لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَلَّ أَكْلَ لَحْمِ الضَّبُعِ، وَأَنَّ السَّلَفَ وَالْعَامَّةَ عِنْدَهُمْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute