للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - فِي حُكْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ مَا لَمْ أَعْلَمْ أَهْلُ الْعِلْمِ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ أَنَّ الدَّيْنَ مَبْدَأٌ عَلَى الْوَصَايَا وَالْمِيرَاثِ فَكَانَ حُكْمُ الدَّيْنَ كَمَا وَصَفْت مُنْفَرِدًا مُقَدَّمًا، وَفِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ " أَوْ دَيْنٍ " ثُمَّ إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ لَا وَصِيَّةَ وَلَا مِيرَاثَ إلَّا بَعْدَ الدَّيْنِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ دَيْنٍ فِي صِحَّةٍ كَانَ أَوْ فِي مَرَضٍ بِإِقْرَارٍ، أَوْ بَيِّنَةٍ، أَوْ أَيَّ وَجْهٍ مَا كَانَ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَخُصَّ دَيْنًا دُونَ دَيْنٍ.

(قَالَ الشَّافِعِيُّ): وَقَدْ رُوِيَ فِي تَبْدِئَةِ الدَّيْنِ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ حَدِيثٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُثْبِتُ أَهْلُ الْحَدِيثِ مِثْلَهُ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى بِالدَّيْنِ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ» وَأَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ هِشَامِ بْنِ حُجَيْرٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قِيلَ: لَهُ كَيْفَ تَأْمُرُنَا بِالْعُمْرَةِ قَبْلَ الْحَجِّ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} فَقَالَ: كَيْفَ تَقْرَءُونَ الدَّيْنَ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ، أَوْ الْوَصِيَّةَ قَبْلَ الدَّيْنِ؟ فَقَالُوا الْوَصِيَّةُ قَبْلَ الدَّيْنِ قَالَ: فَبِأَيِّهِمَا تَبْدَءُونَ؟ قَالُوا بِالدَّيْنِ قَالَ: فَهُوَ ذَاكَ.

(قَالَ الشَّافِعِيُّ): يَعْنِي أَنَّ التَّقْدِيمَ جَائِزٌ، وَإِذَا قُضِيَ الدَّيْنُ كَانَ لِلْمَيِّتِ أَنْ يُوصِيَ بِثُلُثِ مَالِهِ فَإِنْ فَعَلَ كَانَ لِلْوَرَثَةِ الثُّلُثَانِ، وَإِنْ لَمْ يُوصِ، أَوْ أَوْصَى بِأَقَلِّ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ كَانَ ذَلِكَ مَالًا مِنْ مَالٍ تَرَكَهُ قَالَ: فَكَانَ لِلْوَرَثَةِ مَا فَضَلَ عَنْ الْوَصِيَّةِ مِنْ الْمَالِ إنْ أَوْصَى.

(قَالَ الشَّافِعِيُّ): وَلَمَّا جَعَلَ اللَّهُ عَزَّ ذِكْرُهُ لِلْوَرَثَةِ الْفَضْلَ عَنْ الْوَصَايَا وَالدَّيْنِ فَكَانَ الدَّيْنُ كَمَا وَصَفْت وَكَانَتْ الْوَصَايَا مُحْتَمَلَةً أَنْ تَكُونَ مُبْدَأَةً عَلَى الْوَرَثَةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ كَمَا وَصَفْت لَك مِنْ الْفَضْلِ عَنْ الْوَصِيَّةِ وَأَنْ يَكُونَ لِلْوَصِيَّةِ غَايَةٌ يَنْتَهِي بِهَا إلَيْهَا كَالْمِيرَاثِ بِكُلِّ وَارِثٍ غَايَةٌ كَانَتْ الْوَصَايَا مِمَّا أَحْكَمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَرْضَهُ بِكِتَابِهِ وَبَيَّنَ كَيْفَ فَرَضَهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ.

(قَالَ الشَّافِعِيُّ): فَكَانَ غَايَةُ مُنْتَهَى الْوَصَايَا الَّتِي لَوْ جَاوَزَهَا الْمُوصِي كَانَ لِلْوَرَثَةِ رَدُّ مَا جَاوَزَ ثُلُثِ مَالِ الْمُوصِي قَالَ: وَحَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ جَاوَزَ الثُّلُثَ مِنْ الْمُوصِينَ رُدَّتْ وَصِيَّتُهُ إلَى الثُّلُثِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَصَايَا تَجُوزُ لِغَيْرِ قَرَابَةٍ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ رَدَّ عِتْقَ الْمَمْلُوكِينَ إلَى الثُّلُثِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ حَكَمَ بِهِ حُكْمَ الْوَصَايَا وَالْمُعْتَقِ عَرَبِيٌّ، وَإِنَّمَا كَانَتْ الْعَرَبُ تَمْلِكُ مَنْ لَا قَرَابَةَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

بَابُ الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ وَأَقَلِّ مِنْ الثُّلُثِ وَتَرْكِ الْوَصِيَّةِ

(قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -): وَإِذَا أَوْصَى الرَّجُلُ فَوَاسِعٌ لَهُ أَنْ يَبْلُغَ الثُّلُثَ وَقَالَ: فِي «قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِسَعْدٍ الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، أَوْ كَبِيرٌ، إنَّك إنْ تَدَعْ وَرَثَتَك أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرْهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ».

(قَالَ الشَّافِعِيُّ): غَيًّا كَمَا قَالَ: مَنْ بَعْدَهُ فِي الْوَصَايَا وَذَلِكَ بَيِّنٌ فِي كَلَامِهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا قَصَدَ قَصْدَ اخْتِيَارِ أَنْ يَتْرُكَ الْمُوصِي وَرَثَتَهُ أَغْنِيَاءَ، فَإِذَا تَرَكَهُمْ أَغْنِيَاءَ اخْتَرْت لَهُ أَنْ يَسْتَوْعِبَ الثُّلُثَ، وَإِذَا لَمْ يَدَعْهُمْ أَغْنِيَاءَ كَرِهْت لَهُ أَنْ يَسْتَوْعِبَ الثُّلُثَ وَأَنْ يُوصِيَ بِالشَّيْءِ حَتَّى يَكُونَ يَأْخُذُ بِالْحَظِّ مِنْ الْوَصِيَّةِ، وَلَا وَقْتَ فِي ذَلِكَ إلَّا مَا وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ الْوَصِيَّةِ لِمَنْ لَمْ يَدَعْ كَثِيرَ مَالٍ وَمَنْ تَرَكَ أَقَلَّ مِمَّا يُغْنِي وَرَثَتَهُ وَأَكْثَرَ مِنْ التَّافِهِ زَادَ شَيْئًا فِي وَصِيَّتِهِ، وَلَا أُحِبُّ بُلُوغَ الثُّلُثِ إلَّا لِمَنْ تَرَكَ وَرَثَتَهُ أَغْنِيَاءَ.

(قَالَ الشَّافِعِيُّ): فِي قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، أَوْ كَبِيرٌ» يَحْتَمِلُ الثُّلُثَ غَيْرَ قَلِيلٍ، وَهُوَ أَوْلَى مَعَانِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَرِهَهُ لِسَعْدٍ لَقَالَ لَهُ: غُضَّ مِنْهُ، وَقَدْ كَانَ يَحْتَمِلُ أَنَّ لَهُ بُلُوغَهُ وَيَجِبُ لَهُ الْغَضُّ مِنْهُ وَقَلَّ كَلَامٌ إلَّا، وَهُوَ مُحْتَمِلٌ وَأَوْلَى مَعَانِي الْكَلَامِ بِهِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْخَبَرُ وَالدَّلَالَةُ مَا وَصَفْت مِنْ أَنَّهُ لَوْ كَرِهَهُ لِسَعْدٍ أَمَرَهُ أَنْ يَغُضَّ مِنْهُ قِيلَ: لِلشَّافِعِيِّ فَهَلْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا؟ قَالَ: لَمْ أَعْلَمْهُمْ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ جَائِزًا لِكُلِّ مُوصٍ أَنْ يَسْتَكْمِلَ

<<  <  ج: ص:  >  >>