جَاءَتْ عَلَيْهِ يَعْلَمُ هُوَ مِنْ نَفْسِهِ تَغَيُّرَ عَقْلِهِ أَوْ فَهْمِهِ امْتَنَعَ مِنْ الْقَضَاءِ فِيهَا فَإِنْ كَانَ إذَا اشْتَكَى أَوْ جَاعَ أَوْ اهْتَمَّ أَوْ حَزِنَ أَوْ بَطِرَ فَرَحًا تَغَيَّرَ لِذَلِكَ فَهْمُهُ أَوْ خُلُقُهُ لَمْ أُحِبَّ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَا يُغَيِّرُ عَقْلَهُ وَلَا فَهْمَهُ وَلَا خُلُقَهُ قَضَى فَأَمَّا النُّعَاسُ فَيَغْمُرُ الْقَلْبَ شَبِيهًا بِغَمْرِ الْغَشْيِ فَلَا يَقْضِي نَاعِسًا وَلَا مَغْمُورَ الْقَلْبِ مِنْ هَمٍّ أَوْ وَجَعٍ يَغْمُرُ قَلْبَهُ.
(قَالَ): وَأَكْرَهُ لِلْقَاضِي الشِّرَاءَ وَالْبَيْعَ وَالنَّظَرَ فِي النَّفَقَةِ عَلَى أَهْلِهِ وَفِي ضَيْعَتِهِ لِأَنَّ هَذَا أَشْغَلُ لِفَهْمِهِ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ الْغَضَبِ وَجُمَّاعُ مَا شَغَلَ فِكْرَهُ يُكْرَهُ لَهُ وَهُوَ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ أَكْرَهُ لَهُ. وَلَوْ اشْتَرَى أَوْ بَاعَ لَمْ أَنْقُضْ الْبَيْعَ وَلَا الشِّرَاءَ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ وَإِنَّمَا كُرِهَ لِئَلَّا يَشْتَغِلَ فَهْمُهُ.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَضَى فِي الْحَالِ الَّتِي كَرِهْت لَهُ أَنْ يَقْضِيَ فِيهَا لَمْ أَرُدَّ مِنْ حُكْمِهِ إلَّا مَا كُنْت رَادًّا مِنْ حُكْمِهِ فِي أَفْرَغْ حَالَاتِهِ وَذَلِكَ إذَا حَكَمَ بِخِلَافِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمَا وَصَفْت مِمَّا يُرَدُّ بِهِ الْحُكْمُ.
(قَالَ): وَإِذَا اخْتَصَمَ الرَّجُلَانِ إلَى الْقَاضِي فَبَانَ لَهُ مِنْ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ اللَّدَدُ نَهَاهُ فَإِنْ عَادَ زَجَرَهُ. وَلَا يَبْلُغُ أَنْ يَحْبِسَهُ وَلَا يَضْرِبَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ مَا يَسْتَوْجِبُ ضَرْبًا أَوْ حَبْسًا وَمَتَى بَانَ لَهُ الْحَقُّ عَلَيْهِ قَطَعَ بِهِ الْحُكْمَ عَلَيْهِ.
الْإِقْرَارُ وَالِاجْتِهَادُ وَالْحُكْمُ بِالظَّاهِرِ
أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ مِنْهُ فَمَنْ قَضَيْت لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ فَلَا يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ» (قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -): وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْأَئِمَّةَ إنَّمَا كُلِّفُوا الْقَضَاءَ عَلَى الظَّاهِرِ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَنْ قَضَيْت لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ فَأَخْبَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ قَدْ يَكُونُ هَذَا فِي الْبَاطِنِ مُحَرَّمًا عَلَى مَنْ قُضِيَ لَهُ بِهِ وَأَبَاحَ الْقَضَاءَ عَلَى الظَّاهِرِ وَدَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ قَضَاءَ الْإِمَامِ لَا يُحِلُّ حَرَامًا وَلَا يُحَرِّمُ حَلَالًا لِقَوْلِهِ «فَمَنْ قَضَيْت لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ فَلَا يَأْخُذْهُ» وَدَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ حَقٍّ وَجَبَ لِي بِبَيِّنَةٍ أَوْ قَضَاءِ قَاضٍ فَأَقْرَرْت بِخِلَافِهِ أَنَّ قَوْلِي أَوْلَى لِقَوْلِهِ فَمَنْ قَضَيْت لَهُ بِشَيْءٍ فِي الظَّاهِرِ فَلَا يَأْخُذْهُ إذَا كَانَ فِي الْبَاطِنِ لَيْسَ لَهُ وَأَنَّ الْبَاطِنَ إذَا تَبَيَّنَ بِإِقْرَارِهِ فِيمَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بِحَالٍ حُكِمَ عَلَيْهِ بِهِ وَهُوَ أَنْ لَا يَأْخُذَ وَإِذَا لَمْ يَأْخُذْهُ فَهُوَ غَيْرُ آخِذٍ فَأَبْطَلَ إقْرَارَهُ بِأَنْ لَا حَقَّ لَهُ فِيمَا قَضَى لَهُ بِهِ مِنْ الْحَقِّ وَدَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ عَلَى النَّاسِ يَجِيءُ عَلَى نَحْوِ مَا يَسْمَعُ مِنْهُمْ مِمَّا لَفَظُوا بِهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ نِيَّاتُهُمْ أَوْ غَيْبُهُمْ غَيْرَ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ " فَمَنْ قَضَيْت لَهُ فَلَا يَأْخُذْ " إذْ الْقَضَاءُ عَلَيْهِمْ إنَّمَا هُوَ بِمَا لَفَظُوا بِهِ لَا بِمَا غَابَ عَنْهُ. وَقَدْ وَكَّلَهُمْ فِيمَا غَابَ عَنْهُ مِنْهُمْ بِنِيَّةٍ أَوْ قَوْلٍ إلَى أَنْفُسِهِمْ وَدَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِحَاكِمٍ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى أَحَدٍ إلَّا بِمَا لَفَظَ وَأَنْ لَا يَقْضِيَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ مِمَّا غَيَّبَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مِنْ أَمْرِهِ مِنْ نِيَّةٍ أَوْ سَبَبٍ أَوْ ظَنٍّ أَوْ تُهْمَةٍ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ مِنْهُ " وَإِخْبَارُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ مَنْ قَضَيْت لَهُ فَلَا يَأْخُذْهُ أَنَّ الْقَضَاءَ عَلَى مَا يَسْمَعُ مِنْهُمَا وَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي الْبَاطِنِ عَلَيْهِمَا غَيْرَ مَا قَضَى عَلَيْهِمَا بِمَا لَفَظَا بِهِ قَضَى بِمَا سَمِعَ وَوَكَّلَهُمْ فِيمَا غَابَ إلَى أَنْفُسِهِمْ فَمَنْ قَضَى بِتَوَهُّمٍ مِنْهُ عَلَى سَائِلِهِ أَوْ بِشَيْءٍ يَظُنُّ أَنَّهُ خَلْقٌ بِهِ أَوْ بِغَيْرِ مَا سَمِعَ مِنْ السَّائِلِينَ فَخِلَافُ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ اسْتَأْثَرَ بِعِلْمِ الْغَيْبِ وَادَّعَى هَذَا عِلْمَهُ وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى بِمَا سَمِعَ وَأَخْبَرَ أَنْ قَدْ يَكُونُ غَيْبُهُمْ غَيْرَ ظَاهِرِهِمْ لِقَوْلِهِ «فَمَنْ قَضَيْت لَهُ بِشَيْءٍ فَلَا يَأْخُذْهُ» وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute