كِتَابُ الْقُرْعَةِ
أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ قَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} إلَى قَوْلِهِ يَخْتَصِمُونَ وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ - إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ - فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} (قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -): فَأَصْلُ الْقُرْعَةِ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي
قِصَّةِ الْمُقْتَرِعِينَ
عَلَى مَرْيَمَ وَالْمُقَارِعِي يُونُسَ مُجْتَمِعَةً، فَلَا تَكُونُ الْقُرْعَةُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - إلَّا بَيْنَ قَوْمٍ مُسْتَوِينَ فِي الْحُجَّةِ وَلَا يَعْدُو - وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - الْمُقْتَرِعُونَ عَلَى مَرْيَمَ أَنْ يَكُونُوا كَانُوا سَوَاءً فِي كَفَالَتِهَا فَتَنَافَسُوهَا، فَلَمَّا كَانَ أَنْ تَكُونَ عِنْدَ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَرْفَقُ بِهَا؛ لِأَنَّهَا لَوْ صُيِّرَتْ عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَوْمًا، أَوْ أَكْثَرَ وَعِنْدَ غَيْرِهِ مِثْلُ ذَلِكَ كَانَ أَشْبَهَ أَنْ يَكُونَ أَضَرَّ بِهَا مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْكَافِلَ إذَا كَانَ وَاحِدًا كَانَ أَعْطَفَ لَهُ عَلَيْهَا وَأَعْلَمَ بِمَا فِيهِ مَصْلَحَتِهَا لِلْعِلْمِ بِأَخْلَاقِهَا وَمَا تَقْبَلُ وَمَا تَرُدُّ وَمَا يَحْسُنُ بِهِ اغْتِذَاؤُهَا، فَكُلُّ مَنْ اعْتَنَفَ كَفَالَتَهَا كَفَلَهَا غَيْرَ خَابِرٍ بِمَا يُصْلِحُهَا، وَلَعَلَّهُ لَا يَقَعُ عَلَى صَلَاحِهَا حَتَّى تَصِيرَ إلَى غَيْرِهِ فَيَعْتَنِفَ مِنْ كَفَالَتِهَا مَا اعْتَنَفَ غَيْرُهُ.
وَلَهُ وَجْهٌ آخَرُ يَصِحُّ؛ وَذَلِكَ أَنَّ وِلَايَةَ وَاحِدٍ إذَا كَانَتْ صَبِيَّةً غَيْرَ مُمْتَنِعَةٍ مِمَّا يَمْتَنِعُ مِنْهُ مِنْ عَقْلٍ يَسْتُرُ مَا يَنْبَغِي سِتْرُهُ كَانَ أَكْرَمَ لَهَا وَأَسْتَرَ عَلَيْهَا أَنْ يَكْفُلَهَا وَاحِدٌ دُونَ الْجَمَاعَةِ (قَالَ): وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عِنْدَ كَافِلٍ وَيَغْرَمُ مَنْ بَقِيَ مُؤْنَتَهَا بِالْحِصَصِ كَمَا تَكُونُ الصَّبِيَّةُ عِنْدَ خَالَتِهَا وَعِنْدَ أُمِّهَا وَمُؤْنَتُهَا عَلَى مَنْ عَلَيْهِ مُؤْنَتُهَا (قَالَ): وَلَا يَعْدُو الَّذِينَ اقْتَرَعُوا عَلَى كَفَالَةِ مَرْيَمَ أَنْ يَكُونُوا تَشَاحُّوا عَلَى كَفَالَتِهَا، وَهُوَ أَشْبَهُ - وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - أَوْ يَكُونُوا تَدَافَعُوا كَفَالَتَهَا فَاقْتَرَعُوا أَيُّهُمْ تَلْزَمُهُ، فَإِذَا رَضِيَ مَنْ شَحَّ عَلَى كَفَالَتِهَا أَنْ يُمَوِّنَهَا لَمْ يُكَلَّفْ غَيْرُهُ أَنْ يُعْطِيَهُ مِنْ مُؤْنَتِهَا شَيْئًا بِرِضَاهُ بِالتَّطَوُّعِ بِإِخْرَاجِ ذَلِكَ مِنْ مَالِهِ (قَالَ): وَأَيُّ الْمَعْنَيَيْنِ كَانَ فَالْقُرْعَةُ تُلْزِمُ أَحَدَهُمْ مَا يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ وَتُخَلِّصُ لَهُ مَا يَرْغَبُ فِيهِ لِنَفْسِهِ وَتَقْطَعُ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِهِ مِمَّنْ هُوَ فِي مِثْلِ حَالِهِ (قَالَ): وَهَكَذَا مَعْنَى قُرْعَةِ يُونُسَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا وَقَفَتْ بِهِمْ السَّفِينَةُ، فَقَالُوا: مَا يَمْنَعُهَا مِنْ أَنْ تَجْرِيَ إلَّا عِلَّةٌ بِهَا، وَمَا عِلَّتُهَا إلَّا ذُو ذَنْبٍ فِيهَا، فَتَعَالَوْا نَقْتَرِعُ فَاقْتَرَعُوا فَوَقَعَتْ الْقُرْعَةُ عَلَى يُونُسَ، - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَأَخْرَجُوهُ مِنْهَا وَأَقَامُوا فِيهَا.
وَهَذَا مِثْلُ مَعْنَى الْقُرْعَةِ فِي الَّذِينَ اقْتَرَعُوا عَلَى كَفَالَةِ مَرْيَمَ؛ لِأَنَّ حَالَ الرُّكْبَانِ كَانَتْ مُسْتَوِيَةً وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا حُكْمٌ يُلْزِمُ أَحَدَهُمْ فِي مَالِهِ شَيْئًا لَمْ يَلْزَمْهُ قَبْلَ الْقُرْعَةِ وَيُزِيلُ عَنْ آخَرَ شَيْئًا كَانَ يَلْزَمُهُ، فَهُوَ يُثْبِتُ عَلَى بَعْضٍ حَقًّا وَيُبَيِّنُ فِي بَعْضٍ أَنَّهُ بَرِيءٌ مِنْهُ، كَمَا كَانَ فِي الَّذِينَ اقْتَرَعُوا عَلَى كَفَالَةِ مَرْيَمَ غُرْمٌ وَسُقُوطُ غُرْمٍ (قَالَ الشَّافِعِيُّ): وَقُرْعَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كُلِّ مَوْضِعٍ أَقْرَعَ فِيهِ فِي مِثْلِ مَعْنَى الَّذِينَ اقْتَرَعُوا عَلَى كَفَالَةِ مَرْيَمَ سَوَاءٌ لَا يُخَالِفُهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَقْرَعَ بَيْنَ مَمَالِيكَ أُعْتِقُوا مَعًا، فَجَعَلَ الْعِتْقَ تَامًّا لِثُلُثِهِمْ، وَأَسْقَطَ عَنْ ثُلُثَيْهِمْ بِالْقُرْعَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُعْتِقَ فِي مَرَضِهِ أَعْتَقَ مَالَهُ وَمَالَ غَيْرِهِ، فَجَازَ عِتْقُهُ فِي مَالِهِ وَلَمْ يَجُزْ فِي مَالِ غَيْرِهِ، فَجَمَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْعِتْقَ فِي ثُلُثِهِ وَلَمْ يُبَعِّضْهُ كَمَا يَجْمَعُ الْقَسْمَ بَيْنَ أَهْلِ الْمَوَارِيثِ وَلَا يُبَعِّضُ عَلَيْهِمْ، وَكَذَلِكَ كَانَ إقْرَاعُهُ لِنِسَائِهِ أَنْ يَقْسِمَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فِي الْحَضَرِ فَلَمَّا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute