للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لِأَنَّا نَجِدُ مِنْ مُفْتِي النَّاسِ وَأَعْلَامِهِمْ مَنْ يَسْتَحِلُّ هَذَا وَهَكَذَا الْمُسْتَحِلُّ الدِّينَارَ بِالدِّينَارَيْنِ وَالدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ يَدًا بِيَدٍ وَالْعَامِلُ بِهِ لِأَنَّا نَجِدُ مِنْ أَعْلَامِ النَّاسِ مَنْ يُفْتِي بِهِ وَيَعْمَلُ بِهِ وَيَرْوِيه، وَكَذَلِكَ الْمُسْتَحِلُّ لِإِتْيَانِ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ فَهَذَا كُلُّهُ عِنْدَنَا مَكْرُوهٌ مُحَرَّمٌ وَإِنْ خَالَفْنَا النَّاسَ فِيهِ فَرَغِبْنَا عَنْ قَوْلِهِمْ وَلَمْ يَدْعُنَا هَذَا إلَى أَنْ نَجْرَحَهُمْ وَنَقُولَ لَهُمْ إنَّكُمْ حَلَّلْتُمْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَأَخْطَأْتُمْ لِأَنَّهُمْ يَدَّعُونَ عَلَيْنَا الْخَطَأَ كَمَا نَدَّعِيه عَلَيْهِمْ وَيَنْسِبُونَ مَنْ قَالَ قَوْلَنَا إلَى أَنَّهُ حَرَّمَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.

شَهَادَةُ أَهْلِ الْأَشْرِبَةِ

(قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -): مَنْ شَرِبَ مِنْ الْخَمْرِ شَيْئًا وَهُوَ يَعْرِفُهَا خَمْرًا، وَالْخَمْرُ: الْعِنَبُ الَّذِي لَا يُخَالِطُهُ مَاءٌ وَلَا يُطْبَخُ بِنَارٍ وَيُعَتَّقُ حَتَّى يُسْكِرَ هَذَا مَرْدُودُ الشَّهَادَةِ لِأَنَّ تَحْرِيمَهَا نَصٌّ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ سَكِرَ أَوْ لَمْ يَسْكَرْ وَمَنْ شَرِبَ مَا سِوَاهَا مِنْ الْأَشْرِبَةِ مِنْ الْمُنَصَّفِ وَالْخَلِيطَيْنِ أَوْ مِمَّا سِوَى ذَلِكَ مِمَّا زَالَ أَنْ يَكُونَ خَمْرًا وَإِنْ كَانَ يُسْكِرُ كَثِيرُهُ فَهُوَ عِنْدَنَا مُخْطِئٌ بِشُرْبِهِ آثِمٌ بِهِ وَلَا أَرُدُّ بِهِ شَهَادَتَهُ وَلَيْسَ بِأَكْثَرَ مِمَّا أَجَزْنَا عَلَيْهِ شَهَادَتَهُ مِنْ اسْتِحْلَالِ الدَّمِ الْمُحَرَّمِ عِنْدَنَا وَالْمَالِ الْمُحَرَّمِ عِنْدَنَا وَالْفَرْجِ الْمُحَرَّمِ عِنْدَنَا مَا لَمْ يَكُنْ يَسْكَرُ مِنْهُ فَإِذَا سَكِرَ مِنْهُ فَشَهَادَتُهُ مَرْدُودَةٌ مِنْ قِبَلِ أَنَّ السُّكْرَ مُحَرَّمٌ عِنْدَ جَمِيعِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ إلَّا أَنَّهُ قَدْ حُكِيَ لِي عَنْ فِرْقَةٍ أَنَّهَا لَا تُحَرِّمُهُ وَلَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ الْمُسْتَحِلُّ لِلْأَنْبِذَةِ يَحْضُرُهَا مَعَ أَهْلِ السَّفَهِ الظَّاهِرِ وَيَتْرُكُ لَهَا الْحُضُورَ لِلصَّلَوَاتِ وَغَيْرِهَا وَيُنَادِمُ عَلَيْهَا رُدَّتْ شَهَادَتُهُ بِطَرْحِهِ الْمُرُوءَةَ وَإِظْهَارِهِ السَّفَهَ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَعَهَا لَمْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُ مِنْ قِبَلِ الِاسْتِحْلَالِ.

شَهَادَةُ أَهْلِ الْعَصَبِيَّةِ

(قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -): مَنْ أَظْهَرَ الْعَصَبِيَّةَ بِالْكَلَامِ فَدَعَا إلَيْهَا وَتَأَلَّفَ عَلَيْهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يُشْهِرُ نَفْسَهُ بِقِتَالٍ فِيهَا فَهُوَ مَرْدُودُ الشَّهَادَةِ لِأَنَّهُ أَتَى مُحَرَّمًا لَا اخْتِلَافَ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَلِمَتْهُ فِيهِ النَّاسُ كُلُّهُمْ عِبَادُ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَخْرُجُ أَحَدٌ مِنْهُمْ مِنْ عُبُودِيَّتِهِ وَأَحَقُّهُمْ بِالْمَحَبَّةِ أَطْوَعُهُمْ لَهُ وَأَحَقُّهُمْ مِنْ أَهْلِ طَاعَتِهِ بِالْفَضِيلَةِ أَنْفَعُهُمْ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ إمَامٍ عَدْلٍ أَوْ عَالِمٍ مُجْتَهِدٍ أَوْ مُعِينٍ لِعَامَّتِهِمْ وَخَاصَّتِهِمْ وَذَلِكَ أَنَّ طَاعَةَ هَؤُلَاءِ طَاعَةٌ عَامَّةٌ كَثِيرَةٌ فَكَثِيرُ الطَّاعَةِ خَيْرٌ مِنْ قَلِيلِهَا وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ تَعَالَى النَّاسَ بِالْإِسْلَامِ وَنَسَبَهُمْ إلَيْهِ فَهُوَ أَشْرَفُ أَنْسَابِهِمْ.

(قَالَ): فَإِنْ أَحَبَّ امْرُؤٌ فَلْيُحِبَّ عَلَيْهِ وَإِنْ خَصَّ امْرُؤٌ قَوْمَهُ بِالْمَحَبَّةِ مَا لَمْ يَحْمِلْ عَلَى غَيْرِهِمْ مَا لَيْسَ يَحِلُّ لَهُ فَهَذَا صِلَةٌ لَيْسَتْ بِعَصَبِيَّةٍ وَقَلَّ امْرُؤٌ إلَّا وَفِيهِ مَحْبُوبٌ وَمَكْرُوهٌ فَالْمَكْرُوهُ فِي مَحَبَّةِ الرَّجُلِ مَنْ هُوَ مِنْهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَى غَيْرِهِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنْ الْبَغْيِ وَالطَّعْنِ فِي النَّسَبِ وَالْعَصَبِيَّةِ وَالْبِغْضَةِ عَلَى النَّسَبِ لَا عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَلَا عَلَى جِنَايَةٍ مِنْ الْمُبْغِضِ عَلَى الْمُبْغَضِ وَلَكِنْ بِقَوْلِهِ أَبْغَضُهُ لِأَنَّهُ مِنْ بَنِي فُلَانٍ فَهَذِهِ الْعَصَبِيَّةُ الْمَحْضَةُ الَّتِي تُرَدُّ بِهَا الشَّهَادَةُ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ مَا الْحُجَّةُ فِي هَذَا؟ قِيلَ لَهُ: قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إخْوَانًا»، فَإِذَا صَارَ رَجُلٌ إلَى خِلَافِ أَمْرِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى اسْمُهُ وَأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِلَا سَبَبٍ يُعْذَرُ بِهِ يَخْرُجُ بِهِ مِنْ الْعَصَبِيَّةِ كَانَ مُقِيمًا عَلَى مَعْصِيَةٍ لَا تَأْوِيلَ فِيهَا وَلَا اخْتِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِيهَا وَمَنْ أَقَامَ عَلَى مِثْلِ هَذَا كَانَ حَقِيقًا أَنْ يَكُونَ مَرْدُودَ الشَّهَادَةِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>