الْمُسْتَأْمَنُ يُسْلِمُ وَيَخْرُجُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَقَدْ اسْتَوْدَعَ مَالَهُ
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: لَوْ كَانَ أَخَذَ مِنْ مَالِهِ شَيْئًا فَاسْتَوْدَعَهُ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ كَانَ فَيْئًا أَيْضًا وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ لَا وَاحْتَجَّ فِي ذَلِكَ بِصُنْعِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَقَالَ أَحَقُّ مَنْ اُقْتُدِيَ بِهِ وَتُمُسِّكَ بِسُنَّتِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ شُرَيْحٌ إنَّ السُّنَّةَ سَبَقَتْ قِيَاسَكُمْ هَذَا فَاتَّبِعُوا وَلَا تَبْتَدِعُوا فَإِنَّكُمْ لَنْ تَضِلُّوا مَا أَخَذْتُمْ بِالْأَثَرِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ لَيْسَ يُشْبِهُ النَّاسُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا يُشْبِهُ الْحُكْمُ فِي الْأَعَاجِمِ وَأَهْلِ الْكِتَابِ الْحُكْمَ فِي الْعَرَبِ أَلَا تَرَى أَنَّ مُشْرِكِي الْعَرَبِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ لَا يَنْبَغِي أَنْ تُؤْخَذَ مِنْهُمْ جِزْيَةٌ وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إلَّا الْإِسْلَامُ أَوْ الْقَتْلُ وَأَنَّ الْجِزْيَةَ تُقْبَلُ مِنْ مُشْرِكِي الْأَعَاجِمِ وَأَنَّ إمَامًا لَوْ ظَهَرَ عَلَى مَدِينَةٍ مِنْ مَدَائِنِ الرُّومِ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ حَتَّى تَصِيرَ فَيْئًا أَوْ غَنِيمَةً فِي يَدِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَفْتِكَ مِنْهَا شَيْئًا وَلَا يَصْرِفَهَا عَنْ الَّذِينَ افْتَتَحُوهَا يُخَمِّسُهَا وَيُقَسِّمُهَا بَيْنَهُمْ وَأَنَّ السُّنَّةَ هَكَذَا كَانَ الْإِسْلَامُ عَلَى وَلَيْسَ هَكَذَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَقَالَ فِي مَكَّةَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّ اللَّهَ حَرَّمَهَا فَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي» وَقَدْ سَبَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَبْيَ هَوَازِنَ وَسَبَى يَوْمَ بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَيَوْمَ خَيْبَرَ فِي غَزَوَاتٍ مِنْ غَزَوَاتِهِ ظَهَرَ عَلَى أَهْلِهَا وَسَبَى وَلَمْ يَصْنَعْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مَا صَنَعَ فِي مَكَّةَ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا صَنَعَ فِي مَكَّةَ مَا جَازَ لِأَحَدٍ مِنْ النَّاسِ أَنْ يَسْبِيَ أَحَدًا أَبَدًا وَلَا كَانَتْ غَنِيمَةٌ وَلَا فَيْءٌ وَلَكِنَّ الْأَمْرَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَكَّةَ عَلَى غَيْرِ مَا عَلَيْهِ الْمَقَاسِمُ وَالْمَغَانِمُ فَتَفَهَّمْ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَغْنَمْ مِنْ مَكَّةَ غَنِيمَةً مِنْ كَافِرٍ وَلَا مُسْلِمٍ وَلَا سَبَى مِنْهَا لَا مِنْ عِيَالِ مُسْلِمٍ وَلَا مِنْ عِيَالِ كَافِرٍ وَعَفَا عَنْهُمْ جَمِيعًا وَقَدْ جَاءَتْهُ هَوَازِنُ فَكَانَتْ سُنَّتُهُ مَا أَخْبَرْتُ بِهِ وَفَدَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ تَمَسَّكَ بِحَقِّهِ مِنْ السَّبْيِ كُلُّ رَأْسٍ بِسِتَّةِ فَرَائِضَ فَكَانَ الْقَوْلُ فِي هَذَا غَيْرَ الْقَوْلِ فِي أَهْلِ مَكَّةَ وَمَا صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ حَقٌّ كَمَا صَنَعَ لَيْسَ لِأَحَدٍ بَعْدَهُ فِي مِثْلِ هَذَا مَا لَهُ.
(قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -): قَدْ كَثُرَ التَّرَدُّدُ فِي مَكَّةَ وَالْأَمْرُ فِيهَا عَلَى خِلَافِ مَا قَالَا مَعًا وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا وَلَمْ تَخْتَلِفْ سُنَنُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَطُّ وَلَا يُسْتَنَّ إلَّا بِمَا عُلِمَ مِنْ بَعْدِهِ أَنْ يُسْتَنَّ إلَّا مَا بَيَّنَ اللَّهُ لَهُ أَنَّهُ جَعَلَهُ لَهُ خَالِصًا دُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَبَيَّنَهُ هُوَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَلَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ مَنْ بَعْدَهُ وَأَمَّا قَوْلُهُ الْحُكْمُ فِي الْعَرَبِ غَيْرُ الْحُكْمِ فِي الْعَجَمِ فَقَدْ ادَّعَى أَنَّ مَكَّةَ دَارُ حَرْبٍ وَهِيَ دَارُ مَحْرَمٍ فَزَعَمَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَكَمَ فِيهَا خِلَافَ حُكْمِهِ فِي الْعَرَبِ وَهَوَازِنَ وَبَنِي الْمُصْطَلِقِ وَلَمْ يَحْكُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَلَا غَيْرِهِ بِشَيْءٍ اخْتَلَفَ وَلَكِنَّهُ سَبَى مَنْ ظَفِرَ بِهِ عَنْوَةً وَغَنِمَهُ مِنْ عَرَبِيٍّ وَعَجَمِيٍّ وَلَمْ يَسْبِ عَرَبِيًّا وَلَا عَجَمِيًّا تَقَدَّمَ إسْلَامُهُ الظَّفَرَ بِهِ وَلَا قَبْلَ أَمَانِهِ وَتَرَكَ قِتَالِهِ وَأَهْلُ مَكَّةَ أَسْلَمُوا وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْأَمَانُ وَلَا شَيْءَ لَهُمْ بِهَا فَيُؤْخَذُ إنَّمَا هُمْ قَوْمٌ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا لَجَئُوا إلَيْهَا وَأَمَّا قَوْلُهُ لَا تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ مِنْ الْعَرَبِ فَنَحْنُ كُنَّا عَلَى هَذَا أَحْرَصَ لَوْلَا أَنَّ الْحَقَّ فِي غَيْرِ مَا قَالَ فَلَمْ يَكُنْ لَنَا أَنْ نَقُولَ إلَّا الْحَقَّ «وَقَدْ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْجِزْيَةَ مِنْ أُكَيْدِرٍ الْغَسَّانِيِّ» وَيَرْوُونَ أَنَّهُ صَالَحَ رِجَالًا مِنْ الْعَرَبِ عَلَى الْجِزْيَةِ فَأَمَّا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَمِنْ بَعْدِهِ الْخُلَفَاءُ إلَى الْيَوْمِ فَقَدْ أَخَذُوا الْجِزْيَةَ مِنْ بَنِي تَغْلِبَ وَتَنُوخِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute