فَمَنْ كَانَ هَكَذَا كَانَتْ لَهُ الرُّخْصَةُ، فَأَمَّا الْمَرْءُ يَأْتِي أَهْلَهُ بِمَكَّةَ مِنْ سَفَرٍ فَلَا يَدْخُلُ إلَّا مُحْرِمًا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي وَاحِدٍ مِنْ الْمَعْنِيِّينَ، فَأَمَّا الْبَرِيدُ يَأْتِي بِرِسَالَةٍ أَوْ زَوْرِ أَهْلِهِ وَلَيْسَ بِدَائِمِ الدُّخُولِ فَلَوْ اسْتَأْذَنَ فَدَخَلَ مُحْرِمًا كَانَ أَحَبَّ إلَيَّ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَفِيهِ الْمَعْنَى الَّذِي وَصَفْت أَنَّهُ يَسْقُطُ بِهِ عَنْهُ ذَلِكَ، وَمَنْ دَخَلَ مَكَّةَ خَائِفًا الْحَرْبَ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَدْخُلَهَا بِغَيْرِ إحْرَامٍ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: مَا دَلَّ عَلَى مَا وَصَفْت؟ قِيلَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، فَإِنْ قَالَ وَأَيْنَ؟ قِيلَ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} فَأَذِنَ لِلْمُحْرِمِينَ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَنْ يَحِلُّوا لِخَوْفِ الْحَرْبِ، فَكَانَ مَنْ لَمْ يُحْرِمْ أَوْلَى إنْ خَافَ الْحَرْبَ أَنْ لَا يُحْرِمَ مِنْ مُحْرِمٍ يَخْرُجُ مِنْ إحْرَامِهِ، وَدَخَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ الْفَتْحِ غَيْرَ مُحْرِمٍ لِلْحَرْبِ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَهَلْ عَلَيْهِ إذَا دَخَلَهَا بِغَيْرِ إحْرَامٍ لِعَدُوٍّ وَحَرْبٍ أَنْ يَقْضِيَ إحْرَامَهُ؟ قِيلَ: لَا، إنَّمَا يَقْضِي مَا وَجَبَ بِكُلِّ وَجْهٍ فَاسِدٍ، أَوْ تَرَكَ فَلَمْ يُعْمَلْ، فَأَمَّا دُخُولُهُ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ فَلَمَّا كَانَ أَصْلُهُ أَنَّ مَنْ شَاءَ لَمْ يَدْخُلْهَا إذَا قَضَى حَجَّةَ الْإِسْلَامِ وَعُمْرَتَهُ كَانَ أَصْلُهُ غَيْرَ قَرْضٍ فَلَمَّا دَخَلَهَا مُحِلًّا فَتَرَكَهُ كَانَ تَارِكًا لِفَضْلٍ وَأَمْرٍ لَمْ يَكُنْ أَصْلُهُ فَرْضًا بِكُلِّ حَالٍ فَلَا يَقْضِيهِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ فَرْضًا عَلَيْهِ إتْيَانُهَا لِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ أَوْ نَذْرٍ نَذَرَهُ فَتَرَكَهُ إيَّاهُ لَا بُدَّ أَنْ يَقْضِيَهُ أَوْ يُقْضَى عَنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ أَوْ فِي بُلُوغِ الْوَقْتِ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَمْسِكَ فِيهِ عَلَى الْمَرْكَبِ، وَيَجُوزُ عِنْدِي لِمَنْ دَخَلَهَا خَائِفًا مِنْ سُلْطَانٍ أَوْ أَمْرٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهِ، تَرَكَ الْإِحْرَامَ إذَا خَافَهُ فِي الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ، وَإِنْ لَمْ يَخَفْهُ فِيهِمَا لَمْ يَجُزْ لَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَمَنْ الْمَدَنِيِّينَ مَنْ قَالَ: لَا بَأْسَ أَنْ يَدْخُلَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ وَاحْتَجَّ بِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ دَخَلَ مَكَّةَ غَيْرَ مُحْرِمٍ.
(قَالَ الشَّافِعِيُّ): وَابْنُ عَبَّاسٍ يُخَالِفُهُ وَمَعَهُ مَا وَصَفْنَا وَاحْتَجَّ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَهَا عَامَ الْفَتْحِ غَيْرَ مُحْرِمٍ وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَهَا كَمَا وَصَفْنَا مُحَارِبًا، فَإِنْ قَالَ أَقِيسُ عَلَى مَدْخَلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قِيلَ لَهُ: أَفَتَقِيسُ عَلَى إحْصَارِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْحَرْبِ؟ فَإِنْ قَالَ: لَا، لِأَنَّ الْحَرْبَ مُخَالِفَةٌ لِغَيْرِهَا، قِيلَ: وَهَكَذَا افْعَلْ فِي الْحَرْبِ حَيْثُ كَانَتْ، لَا تُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا فِي مَوْضِعٍ وَتَجْمَعْ بَيْنَهُمَا فِي آخَرَ.
بَابُ مِيقَاتِ الْعُمْرَةِ مَعَ الْحَجِّ
(قَالَ الشَّافِعِيُّ): - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَمِيقَاتُ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ وَاحِدٌ وَمَنْ قَرَنَ أَجْزَأَتْ عَنْهُ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ وَعُمْرَتُهُ وَعَلَيْهِ دَمُ الْقِرَانِ وَمَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يُدْخِلَ عَلَيْهَا حَجَّةً فَذَلِكَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَنْ يَفْتَتِحَ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ فَإِذَا افْتَتَحَ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ فَقَدْ دَخَلَ فِي الْعَمَلِ الَّذِي يُخْرِجُهُ مِنْ الْإِحْرَامِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ فِي إحْرَامٍ وَلَمْ يَسْتَكْمِلْ الْخُرُوجَ مِنْ إحْرَامٍ قَبْلَهُ، فَلَا يُدْخِلُ إحْرَامًا عَلَى إحْرَامٍ لَيْسَ مُقِيمًا عَلَيْهِ، وَهَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَإِذَا أَخَذَ فِي الطَّوَافِ فَأَدْخَلَ عَلَيْهِ الْحَجَّ لَمْ يَكُنْ بِهِ مُحْرِمًا وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ وَلَا فِدْيَةٌ لِتَرْكِهِ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَكَيْفَ كَانَ لَهُ أَنْ يَكُونَ مُفْرِدًا بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ يُدْخِلُ عَلَيْهَا حَجًّا؟ قِيلَ: لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ إحْرَامِهَا، وَهَذَا لَا يَجُوزُ فِي صَلَاةٍ وَلَا صَوْمٍ وَقِيلَ لَهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ: «أَهَلَّتْ عَائِشَةُ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْتَظِرُونَ الْقَضَاءَ، فَنَزَلَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْقَضَاءُ فَأَمَرَ مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ أَنْ يَجْعَلَ إحْرَامَهُ عُمْرَةً، فَكَانَتْ مُعْتَمِرَةً بِأَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا هَدْيٌ فَلَمَّا حَالَ الْمَحِيضُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْإِحْلَالِ مِنْ عُمْرَتِهَا وَرَهِقَهَا الْحَجُّ أَمَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ تُدْخِلَ عَلَيْهَا الْحَجَّ فَفَعَلَتْ فَكَانَتْ قَارِنَةً»، فَبِهَذَا قُلْنَا يُدْخِلُ الْحَجَّ عَلَى الْعُمْرَةِ مَا لَمْ يَفْتَتِحْ الطَّوَافَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute