الصُّلْحُ
(أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ): قَالَ أَمْلَى عَلَيْنَا الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: أَصْلُ الصُّلْحِ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ فَمَا جَازَ فِي الْبَيْعِ جَازَ فِي الصُّلْحِ وَمَا لَمْ يَجُزْ فِي الْبَيْعِ لَمْ يَجُزْ فِي الصُّلْحِ ثُمَّ يَتَشَعَّبُ وَيَقَعُ الصُّلْحُ عَلَى مَا يَكُونُ لَهُ ثَمَنٌ مِنْ الْجِرَاحِ الَّتِي لَهَا أَرْشٌ وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ وَزَوْجِهَا الَّتِي لَهَا عَلَيْهِ صَدَاقٌ، وَكُلُّ هَذَا يَقُومُ مَقَامَ الْأَثْمَانِ، وَلَا يَجُوزُ الصُّلْحُ عِنْدِي إلَّا عَلَى أَمْرٍ مَعْرُوفٍ كَمَا لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ إلَّا عَلَى أَمْرٍ مَعْرُوفٍ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إلَّا صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا. وَمِنْ الْحَرَامِ الَّذِي يَقَعُ فِي الصُّلْحِ أَنْ يَقَعَ عِنْدِي عَلَى الْمَجْهُولِ الَّذِي لَوْ كَانَ بَيْعًا كَانَ حَرَامًا وَإِذَا مَاتَ الرَّجُلُ وَوَرِثَتْهُ امْرَأَةٌ أَوْ وَلَدٌ أَوْ كَلَالَةٌ فَصَالَحَ بَعْضُ الْوَرَثَةِ بَعْضًا فَإِنْ وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى مَعْرِفَةٍ مِنْ الْمَصَالِحِ وَالْمُصَالَحِ بِحُقُوقِهِمْ أَوْ إقْرَارٍ بِمَعْرِفَتِهِمْ بِحُقُوقِهِمْ، وَتَقَابَضَ الْمُتَصَالِحَانِ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا فَالصُّلْحُ جَائِزٌ وَإِنْ وَقَعَ عَلَى غَيْرِهِ مَعْرِفَةٌ مِنْهُمَا بِمَبْلَغِ حَقِّهِمَا أَوْ حَقِّ الْمُصَالِحِ مِنْهُمَا لَمْ يَجُزْ الصُّلْحُ كَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ مَالِ امْرِئٍ لَا يَعْرِفُهُ وَإِذَا ادَّعَى الرَّجُلُ عَلَى الرَّجُلِ الدَّعْوَى فِي الْعَبْدِ أَوْ غَيْرِهِ أَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ جِنَايَةً عَمْدًا أَوْ خَطَأً بِمَا يَجُوزُ بِهِ الْبَيْعُ كَانَ الصُّلْحُ نَقْدًا أَوْ نَسِيئَةً وَإِذَا كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يُنْكِرُ فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ وَهُمَا عَلَى أَصْلِ حَقِّهِمَا وَيَرْجِعُ الْمُدَّعِي عَلَى دَعْوَاهُ وَالْمُعْطِي بِمَا أَعْطَى، وَسَوَاءٌ إذَا أَفْسَدْت الصُّلْحَ قَالَ الْمُدَّعِي قَدْ أَبْرَأْتُك مِمَّا ادَّعَيْتُ عَلَيْك أَوْ لَمْ يَقُلْهُ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ إنَّمَا أَبْرَأَهُ عَلَى أَنْ يُتِمَّ لَهُ مَا أَخَذَ مِنْهُ، وَلَيْسَ هَذَا بِأَكْثَرَ مِنْ أَنْ يَبِيعَهُ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ فَإِذَا لَمْ يَتِمَّ لَهُ الْفَسَادَ رَجَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى أَصْلِ مِلْكِهِ كَمَا كَانَا قَبْلَ أَنْ يَتَبَايَعَا.
فَإِذَا أَرَادَ الرَّجُلَانِ الصُّلْحَ وَكَرِهَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْإِقْرَارَ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُقِرَّ رَجُلٌ أَجْنَبِيٌّ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِمَا ادَّعَى عَلَيْهِ مِنْ جِنَايَةٍ أَوْ مَالٍ ثُمَّ يُؤَدِّيَ ذَلِكَ عَنْهُ صُلْحًا فَيَكُونُ صَحِيحًا، وَلَيْسَ لِلَّذِي أَعْطَى عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُصَالِحِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَلَا لِلْمُصَالَحِ الْمُدَّعِي أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَخَذَ الْعِوَضَ مِنْ حَقِّهِ إلَّا أَنْ يَعْقِدَا صُلْحَهُمَا عَلَى فَسَادٍ فَيَكُونُونَ كَمَا كَانُوا فِي أَوَّلِ مَا تَدَاعَوْا قَبْلَ الصُّلْحِ. قَالَ: وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ حَقًّا فِي دَارٍ فَأَقَرَّ لَهُ بِدَعْوَاهُ وَصَالَحَهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى إبِلٍ أَوْ بَقَرٍ أَوْ غَنَمٍ أَوْ رَقِيقٍ أَوْ بَزٍّ مَوْصُوفٍ أَوْ دَنَانِيرَ أَوْ دَرَاهِمَ مَوْصُوفَةٍ أَوْ طَعَامٍ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى كَانَ الصُّلْحُ جَائِزًا كَمَا يَجُوزُ لَوْ بِيعَ ذَلِكَ إلَى ذَلِكَ الْأَجَلِ، وَلَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ شِقْصًا مِنْ دَارٍ فَأَقَرَّ لَهُ بِهِ ثُمَّ صَالَحَهُ عَلَى أَنْ أَعْطَاهُ بِذَلِكَ بَيْتًا مَعْرُوفًا مِنْ الدَّارِ مِلْكًا لَهُ أَوْ سُكْنَى لَهُ عَدَدَ سِنِينَ فَذَلِكَ جَائِزٌ كَمَا يَجُوزُ لَوْ اقْتَسَمَاهُ أَوْ تَكَارَى شِقْصًا لَهُ فِي دَارٍ، وَلَكِنَّهُ لَوْ قَالَ أُصَالِحُك عَلَى سُكْنَى هَذَا الْمَسْكَنِ، وَلَمْ يُسَمِّ وَقْتًا كَانَ الصُّلْحُ فَاسِدًا مِنْ قِبَلِ أَنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ كَمَا لَوْ ابْتَدَأَهُ حَتَّى يَكُونَ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ وَهَكَذَا لَوْ صَالَحَهُ عَلَى أَنْ يُكْرِيَهُ هَذِهِ الْأَرْضَ سِنِينَ يَزْرَعُهَا أَوْ عَلَى شِقْصٍ مِنْ دَارٍ أُخْرَى سَمَّى ذَلِكَ وَعَرَفَ جَازَ كَمَا يَجُوزُ فِي الْبَيْعِ وَالْكِرَاءِ وَإِذَا لَمْ يُسَمِّهِ لَمْ يَجُزْ كَمَا لَا يَجُوزُ فِي الْبُيُوعِ وَالْكِرَاءِ.
(قَالَ الشَّافِعِيُّ): وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَشْرَعَ ظُلَّةً أَوْ جَنَاحًا عَلَى طَرِيقٍ نَافِذَةٍ فَخَاصَمَهُ رَجُلٌ؛ لِيَمْنَعَهُ مِنْهُ فَصَالَحَهُ عَلَى شَيْءٍ عَلَى أَنْ يَدَعَهُ كَانَ الصُّلْحُ بَاطِلًا؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ مِنْهُ عَلَى مَا لَا يَمْلِكُ وَنُظِرَ فَإِنْ كَانَ إشْرَاعُهُ غَيْرَ مُضِرٍّ خُلِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، وَإِنْ كَانَ مُضِرًّا مَنَعَهُ وَكَذَلِكَ لَوْ أَرَادَ إشْرَاعَهُ عَلَى طَرِيقٍ لِرَجُلٍ خَاصَّةً لَيْسَ بِنَافِذٍ أَوْ لِقَوْمٍ فَصَالَحَهُ أَوْ صَالَحُوهُ عَلَى شَيْءٍ أَخَذُوهُ مِنْهُ عَلَى أَنْ يَدَعُوهُ يَشْرَعُهُ كَانَ الصُّلْحُ فِي هَذَا بَاطِلًا مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ إنَّمَا أَشْرَعَ فِي جِدَارِ نَفْسِهِ وَعَلَى هَوَاءٍ لَا يَمْلِكُ مَا تَحْتَهُ، وَلَا مَا فَوْقَهُ فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُثَبِّتَ خَشَبَةً وَيَصِحُّ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ الشَّرْطُ؛ فَلْيَجْعَلْ ذَلِكَ فِي خَشَبٍ يَحْمِلُهُ عَلَى جُدْرَانِهِمْ وَجِدَارِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ شِرَاءَ مَحْمَلِ الْخَشَبِ، وَيَكُونُ الْخَشَبُ بِأَعْيَانِهِ مَوْصُوفًا أَوْ مَوْصُوفَ الْمَوْضِعِ أَوْ يُعْطِيهِمْ شَيْئًا عَلَى أَنْ يُقِرُّوا لَهُ بِخَشَبٍ يَشْرَعُهُ وَيُشْهِدُونَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute