للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حُجَّةٌ أَنْ يَكُونَ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ حُجَّةً فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَكَيْفَ تَقُولُ قُلْت: لَا يُقَالُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا إجْمَاعٌ وَلَكِنْ يُنْسَبُ كُلُّ شَيْءٍ مِنْهُ إلَى فَاعِلِهِ فَيُنْسَبُ إلَى أَبِي بَكْرٍ فِعْلُهُ، وَإِلَى عُمَرَ فِعْلُهُ، وَإِلَى عَلِيٍّ فِعْلُهُ، وَلَا يُقَالُ لِغَيْرِهِمْ مِمَّنْ أَخَذَ مِنْهُمْ مُوَافَقَةً لَهُمْ وَلَا مُخَالِفَةً وَلَا يُنْسَبُ إلَى سَاكِتٍ قَوْلُ قَائِلٍ وَلَا عَمَلُ عَامِلٍ إنَّمَا يُنْسَبُ إلَى كُلٍّ قَوْلُهُ وَعَمَلُهُ، وَفِي هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ادِّعَاءَ الْإِجْمَاعِ فِي كَثِيرٍ مِنْ خَاصِّ الْأَحْكَامِ لَيْسَ كَمَا يَقُولُ مَنْ يَدَّعِيهِ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ أَفَتَجِدُ مِثْلَ هَذَا؟ قُلْنَا: إنَّمَا بَدَأْنَا بِهِ؛ لِأَنَّهُ أَشْهَرُ مَا صَنَعَ الْأَئِمَّةُ وَأَوْلَى أَنْ لَا يَخْتَلِفُوا فِيهِ وَأَنْ لَا يَجْهَلَهُ الْعَامَّةُ وَنَحْنُ نَجِدُ كَثِيرًا مِنْ ذَلِكَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ جَعَلَ الْجَدَّ أَبًا، ثُمَّ طَرَحَ الْإِخْوَةَ مَعَهُ، ثُمَّ خَالَفَهُ فِيهِ عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ.

وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَأَى عَلَى بَعْضِ أَهْلِ الرِّدَّةِ فِدَاءً وَسَبْيًا وَحَبَسَهُمْ لِذَلِكَ فَأَطْلَقَهُمْ عُمَرُ وَقَالَ: لَا سَبْيَ وَلَا فِدَاءَ مَعَ غَيْرِ هَذَا مِمَّا سَكَتْنَا عَنْهُ وَنَكْتَفِي بِهَذَا مِنْهُ أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ: قَالَ: أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ يَحْيَى بْنَ حَاطِبٍ حَدَّثَهُ قَالَ: تُوُفِّيَ حَاطِبٌ فَأَعْتَقَ مَنْ صَلَّى مِنْ رَقِيقِهِ وَصَامَ وَكَانَتْ لَهُ أَمَةٌ نُوبِيَّةٌ قَدْ صَلَّتْ وَصَامَتْ وَهِيَ أَعْجَمِيَّةٌ لَمْ تَفْقَهْ فَلَمْ تُرِعْهُ إلَّا بِحَمْلِهَا وَكَانَتْ ثَيِّبًا فَذَهَبَ إلَى عُمَرَ فَحَدَّثَهُ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: لَأَنْتَ الرَّجُلُ لَا يَأْتِي بِخَيْرٍ، فَأَفْزَعَهُ ذَلِكَ فَأَرْسَلَ إلَيْهَا عُمَرُ فَقَالَ: أَحَبَلْت؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ مِنْ مَرْعُوشٍ بِدِرْهَمَيْنِ وَإِذَا هِيَ تَسْتَهِلُّ بِذَلِكَ وَلَا تَكْتُمُهُ قَالَ وَصَادَفَ عَلِيًّا وَعُثْمَانَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ فَقَالَ أَشِيرُوا عَلَيَّ قَالَ: وَكَانَ عُثْمَانُ جَالِسًا فَاضْطَجَعَ فَقَالَ: عَلِيٌّ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ قَدْ وَقَعَ عَلَيْهَا الْحَدُّ فَقَالَ أَشِرْ عَلَيَّ يَا عُثْمَانُ فَقَالَ: قَدْ أَشَارَ عَلَيْك أَخَوَاك فَقَالَ أَشِرْ أَنْتَ عَلَيَّ قَالَ أَرَاهَا تَسْتَهِلُّ بِهِ كَأَنَّهَا لَا تَعْلَمُهُ وَلَيْسَ الْحَدُّ إلَّا عَلَى مَنْ عَلِمَهُ فَقَالَ عُمَرُ: صَدَقْت صَدَقْت وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا الْحَدُّ إلَّا عَلَى مَنْ عَلِمَهُ فَجَلَدَهَا عُمَرُ مِائَةً وَغَرَّبَهَا عَامًا.

(قَالَ الشَّافِعِيُّ): فَخَالَفَ عَلِيًّا وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ فَلَمْ يَحُدَّهَا حَدَّهَا عِنْدَهُمَا وَهُوَ الرَّجْمُ قَالَ: وَخَالَفَ عُثْمَانَ أَنْ لَا يَحُدَّهَا بِحَالٍ وَجَلَدَهَا مِائَةً وَغَرَّبَهَا عَامًا فَلَمْ يُرْوَ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ مِنْ خِلَافِهِ بَعْدَ حَدِّهِ إيَّاهَا حَرْفٌ وَلَمْ يُعْلَمْ خِلَافُهُمْ لَهُ إلَّا بِقَوْلِهِمْ الْمُتَقَدِّمِ قَبْلَ فِعْلِهِ.

(قَالَ): وَقَالَ بَعْضُ مَنْ يَقُولُ مَا لَا يَنْبَغِي لَهُ إذْ قَبِلَ حَدَّ عُمَرَ مَوْلَاةُ حَاطِبٍ كَذَا لَمْ يَكُنْ عُمَرُ لِيَحُدَّهَا إلَّا بِإِجْمَاعِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَهَالَةً بِالْعِلْمِ وَجُرْأَةً عَلَى قَوْلِ مَا لَا يَعْلَمُ فَمَنْ اجْتَرَأَ عَلَى أَنْ يَقُولَ: إنَّ قَوْلَ رَجُلٍ، أَوْ عَمَلَهُ فِي خَاصِّ الْأَحْكَامِ مَا لَمْ يُحْكَ عَنْهُ وَعَنْهُمْ قَالَ عِنْدَنَا مَا لَمْ يُعْلَمْ.

(قَالَ الشَّافِعِيُّ): وَقَضَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي أَنْ لَا تُبَاعَ أُمَّهَاتُ الْأَوْلَادِ وَخَالَفَهُ عَلِيٌّ وَقَضَى عُمَرُ فِي الضِّرْسِ بِجَمَلٍ وَخَالَفَهُ غَيْرُهُ فَجَعَلَ الضِّرْسَ سِنًّا فِيهَا خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ وَقَالَ عُمَرُ وَعَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَغَيْرُهُمْ: لِلرَّجُلِ عَلَى امْرَأَتِهِ الرَّجْعَةُ حَتَّى تَطْهُرَ مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ وَخَالَفَهُمْ غَيْرُهُمْ فَقَالَ: إذَا طَعَنَتْ فِي الدَّمِ مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ فَقَدْ انْقَطَعَتْ رَجْعَتُهُ عَنْهَا مَعَ أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ أَكْثَرُ مِمَّا وَصَفْت فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ قَائِلَ السَّلَفِ يَقُولُ بِرَأْيِهِ وَيُخَالِفُهُ غَيْرُهُ وَيَقُولُ بِرَأْيِهِ وَلَا يُرْوَى عَنْ غَيْرِهِ فِيمَا قَالَ بِهِ شَيْءٌ فَلَا يُنْسَبُ الَّذِي لَمْ يُرْوَ عَنْهُ شَيْءٌ إلَى خِلَافِهِ وَلَا مُوَافَقَتِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَقُلْ لَمْ يُعْلَمْ قَوْلُهُ وَلَوْ جَازَ أَنْ يُنْسَبَ إلَى مُوَافَقَتِهِ جَازَ أَنْ يُنْسَبَ إلَى خِلَافِهِ وَلَكِنَّ كُلًّا كَذِبٌ إذَا لَمْ يُعْرَفْ قَوْلُهُ وَلَا الصِّدْقُ فِيهِ إلَّا أَنْ يُقَالَ مَا يُعْرَفُ إذَا لَمْ يَقُلْ قَوْلًا وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ بَعْضَهُمْ لَا يَرَى قَوْلَ بَعْضٍ حُجَّةً تَلْزَمُهُ إذَا رَأَى خِلَافَهَا، وَأَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ اللَّازِمَ إلَّا الْكِتَابَ، أَوْ السُّنَّةَ وَأَنَّهُمْ لَمْ يَذْهَبُوا قَطُّ إنْ شَاءَ اللَّهُ إلَى أَنْ يَكُونَ خَاصُّ الْأَحْكَامِ كُلِّهَا إجْمَاعًا كَإِجْمَاعِهِمْ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَجُمَلِ الْفَرَائِضِ وَأَنَّهُمْ كَانُوا إذَا وَجَدُوا كِتَابًا، أَوْ سُنَّةً اتَّبَعُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَإِذَا تَأَوَّلُوا مَا يَحْتَمِلُ فَقَدْ يَخْتَلِفُونَ وَلِذَلِكَ إذَا قَالُوا فِيمَا لَمْ يَعْلَمُوا فِيهِ سُنَّةً اخْتَلَفُوا.

(قَالَ الشَّافِعِيُّ): وَهِيَ حُجَّةٌ عَلَى أَنَّ دَعْوَى الِاجْتِمَاعِ فِي كُلِّ الْأَحْكَامِ لَيْسَ كَمَا ادَّعَى مَنْ ادَّعَى مَا وَصَفْت مِنْ هَذَا وَنَظَائِرَ لَهُ أَكْثَرُ مِنْهُ وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>