إنْ ظَهَرَ عَلَيْهِ مَاءُ سَيْلٍ، أَوْ غِيلٍ مُشْتَرَكٍ أَوْ مَاءُ مَطَرٍ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ مُشْتَرَكٌ فَإِنْ كَانَ لَهُ مَاءٌ خَاصٌّ وَذَلِكَ مَاءُ عَيْنٍ، أَوْ نَهْرٍ يَحْفِرُهَا يَسْقِي بِهَا أَرْضًا فَهَذَا إحْيَاءٌ لَهَا وَهَكَذَا إنْ سَاقَ إلَيْهَا مِنْ نَهْرٍ، أَوْ وَادٍ، أَوْ غِيلٍ مُشْتَرَكٍ فِي مَاءِ عَيْنٍ لَهُ، أَوْ خَلِيجٍ خَاصَّةٍ فَسَقَاهَا بِهِ، فَقَدْ أَحْيَاهَا الْإِحْيَاءَ الَّذِي يَمْلِكُهَا بِهِ
(قَالَ الشَّافِعِيُّ): مَا لَا يَمْلِكُهُ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ صِنْفَانِ: أَحَدُهُمَا يَجُوزُ أَنْ يَمْلِكَهُ مَنْ يُحْيِيهِ وَذَلِكَ مِثْلُ الْأَرْضِ تُتَّخَذُ لِلزَّرْعِ وَالْغِرَاسِ وَالْآبَارِ وَالْعُيُونِ وَالْمِيَاهِ وَمَرَافِقِ هَذَا الَّذِي لَا يَكْمُلُ صَلَاحُهُ إلَّا بِهِ، وَهَذَا إنَّمَا تُجْلَبُ مَنْفَعَتُهُ بِشَيْءٍ مِنْ غَيْرِهِ لَا كَبِيرَ مَنْفَعَةٍ فِيهِ هُوَ نَفْسِهِ، وَهَذَا إذَا أَحْيَاهُ رَجُلٌ بِأَمْرِ وَالٍ، أَوْ غَيْرِ أَمْرِهِ مَلَكَهُ، وَلَمْ يَمْلِكْ أَبَدًا إلَّا أَنْ يُخْرِجَهُ مَنْ أَحْيَاهُ مِنْ يَدِهِ، وَالصِّنْفُ الثَّانِي مَا تُطْلَبُ الْمَنْفَعَةُ مِنْهُ نَفْسِهِ لِيَخْلُصَ إلَيْهَا لَا شَيْءَ يُجْعَلُ فِيهِ مِنْ غَيْرِهِ وَذَلِكَ الْمَعَادِنُ كُلُّهَا الظَّاهِرَةُ وَالْبَاطِنَةُ مِنْ الذَّهَبِ وَالتِّبْرِ وَالْكُحْلِ وَالْكِبْرِيتِ وَالْمِلْحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَصْلُ الْمَعَادِنِ صِنْفَانِ مَا كَانَ ظَاهِرًا كَالْمِلْحِ الَّذِي يَكُونُ فِي الْجِبَالِ يَنْتَابُهُ النَّاسُ فَهَذَا لَا يَصْلُحُ لِأَحَدٍ أَنْ يُقْطِعَهُ أَحَدًا بِحَالٍ وَالنَّاسُ فِيهِ شُرَّعٌ، وَهَكَذَا النَّهْرُ وَالْمَاءُ الظَّاهِرُ فَالْمُسْلِمُونَ فِي هَذَا كُلِّهِمْ شُرَكَاءُ، وَهَذَا كَالنَّبَاتِ فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ أَحَدٌ وَكَالْمَاءِ فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ أَحَدٌ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: مَا الدَّلِيلُ عَلَى مَا وَصَفْت؟ قِيلَ:
(أَخْبَرَنَا) ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ مَأْرِبَ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ الْأَبْيَضَ بْنَ حَمَّالٍ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُقْطِعَهُ مِلْحَ مَأْرِبَ فَأَرَادَ أَنْ يُقْطِعَهُ، أَوْ قَالَ: أُقْطِعُهُ إيَّاهُ، فَقِيلَ لَهُ إنَّهُ كَالْمَاءِ الْعَدِّ»، قَالَ: فَلَا إذَنْ.
(قَالَ الشَّافِعِيُّ): فَنَمْنَعُهُ إقْطَاعَ مِثْلِ هَذَا فَإِنَّمَا هَذَا حِمًى، وَقَدْ قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا حِمَى إلَّا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ» فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَكَيْفَ يَكُونُ حِمًى؟ قِيلَ: هُوَ لَا يُحْدِثُ فِيهِ شَيْئًا تَكُونُ الْمَنْفَعَةُ فِيهِ مِنْ عَمَلِهِ، وَلَا يَطْلُبُ فِيهِ شَيْئًا لَا يُدْرِكُهُ إلَّا بِالْمُؤْنَةِ عَلَيْهِ إنَّمَا يَسْتَدِرْك فِيهِ شَيْئًا ظَاهِرًا ظُهُورَ الْمَاءِ وَالْكَلَأِ، فَإِذَا تَحَجَّرَ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ هَذَا، فَقَدْ حَمَى لِخَاصَّةِ نَفْسِهِ فَلَيْسَ ذَلِكَ لَهُ، وَلَكِنَّهُ شَرِيكٌ فِيهِ كَشَرِكَتِهِ فِي الْمَاءِ وَالْكَلَأِ الَّذِي لَيْسَ فِي مِلْكِ أَحَدٍ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَإِقْطَاعُ الْأَرْضِ لِلْبِنَاءِ وَالْغِرَاسِ لَيْسَ حِمًى، قِيلَ: إنَّهُ إنَّمَا يَقْطَعُ مِنْ الْأَرْضِ مَا لَا يَضُرُّ بِالنَّاسِ وَمَا يَسْتَغْنِي بِهِ وَيَنْتَفِعُ بِهِ هُوَ وَغَيْرُهُ، قَالَ: وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بِمَا يُحْدِثُهُ هُوَ فِيهِ مِنْ مَالٍ فَتَكُونُ مَنْفَعَتُهُ بِمَا اسْتَحْدَثَ مِنْ مَالِهِ مِنْ بِنَاءٍ أَحْدَثَهُ، أَوْ غَرْسٍ، أَوْ زَرْعٍ لَمْ يَكُنْ لِآدَمِيٍّ وَمَاءٍ احْتَفَرَهُ، وَلَمْ يَكُنْ وَصَلَ إلَيْهِ آدَمِيٌّ إلَّا بِاحْتِفَارِهِ، وَقَدْ أَقْطَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَلَّمَ الدُّورَ وَالْأَرْضِينَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْحِمَى الَّذِي نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ أَنْ يَحْمِيَ الرَّجُلُ الْأَرْضَ لَمْ تَكُنْ مِلْكًا لَهُ، وَلَا لِغَيْرِهِ بِلَا مَالٍ يُنْفِقُهُ فِيهَا، وَلَا مَنْفَعَةَ يَسْتَحْدِثُهَا بِهَا فِيهَا لَمْ تَكُنْ فِيهَا فَهَذَا مَعْنَى قَطِيعٍ مَأْذُونٍ فِيهِ لَا حِمًى مَنْهِيٌّ عَنْهُ.
(قَالَ الرَّبِيعُ) يُرِيدُ الَّذِي هُوَ مَأْذُونٌ فِيهِ الَّذِي اسْتَحْدَثَ فِيهِ بِالنَّفَقَةِ مِنْ مَالِهِ، وَأَمَّا مَا كَانَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ بِلَا نَفَقَةٍ عَلَى مَنْ حَمَاهُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْمِيَهُ.
(قَالَ الشَّافِعِيُّ): وَمِثْلُ هَذَا كُلُّ عَيْنٍ ظَاهِرَةٌ كَنَفْطٍ، أَوْ قَارٍ، أَوْ كِبْرِيتٍ، أَوْ مُومْيَاءَ أَوْ حِجَارَةٍ ظَاهِرَةٍ كَمُومْيَاءَ فِي غَيْرِ مِلْكٍ لِأَحَدٍ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَحَجَّرَهَا دُونَ غَيْرِهِ، وَلَا لِسُلْطَانِهَا أَنْ يَمْنَعَهَا لِنَفْسِهِ، وَلَا لِخَاصٍّ مِنْ النَّاسِ؛ لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ ظَاهِرٌ كَالْمَاءِ وَالْكَلَأِ، وَهَكَذَا عِضَاهُ الْأَرْضِ لَيْسَ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يَقْطَعَهَا لِمَنْ يَتَحَجَّرُهَا دُونَ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهَا ظَاهِرَةٌ، وَلَوْ أَقْطَعَهُ أَرْضًا يَعْمُرُهَا فِيهَا عِضَاهٌ فَعَمَرَهَا كَانَ ذَلِكَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يُحْدِثُ فِيهَا مَا وَصَفْت بِمَالِهِ مِمَّا هُوَ أَنْفَعُ مِمَّا كَانَ فِيهَا، وَلَوْ تَحَجَّرَ رَجُلٌ لِنَفْسِهِ مِنْ هَذَا شَيْئًا، أَوْ مَنَعَهُ لَهُ سُلْطَانٌ كَانَ ظَالِمًا.
وَلَوْ أَخَذَ فِي هَذَا الْحَالِ مِنْ هَذَا شَيْئًا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُ إلَّا أَنَّهُ يُشْرِكُ فِيهِ مَنْ مَنَعَهُ مِنْهُ، وَلَا أَنْ يَغْرَمَ لِمَنْ مَنَعَهُ شَيْئًا بِمَنْعِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ شَيْئًا كَانَ لِأَحَدٍ فَيَضْمَنُ لَهُ مَا أَخَذَ مِنْهُ، وَإِنْ مَنَعَ الرَّجُلَ مِمَّا لِلرَّجُلِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ جِهَةِ الْإِبَاحَةِ، لَا يُلْزِمُهُ غُرْمًا إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَمْنَعْهُ أَنْ يَحْتَطِبَ حَطَبًا، أَوْ يَنْزِلَ أَرْضًا لَمْ يَضْمَنْ لَهُ شَيْئًا إنَّمَا يَضْمَنُ مَا أَتْلَفَ لِرَجُلٍ أَوْ أَخَذَ مِمَّا كَانَ مِلْكُهُ لِرَجُلٍ، وَلَوْ أَحْدَثَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذَا بِنَاءً قِيلَ لَهُ حَوِّلْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute