مِنْهُ قَالَ فَكَيْفَ أَجَزْت الصَّدَقَاتِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْهَا مَنْ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيْهِ؟ فَقُلْت اتِّبَاعًا وَقِيَاسًا فَقَالَ: وَمَا الِاتِّبَاعُ؟ فَقُلْت لَهُ لَمَّا سَأَلَ عُمَرُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ مَالِهِ فَأَمَرَهُ أَنْ يَحْبِسَ أَصْلَ مَالِهِ وَيُسَبِّلَ ثَمَرَهُ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى إجَازَةِ الْحَبْسِ وَعَلَى أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَلِي حَبْسَ صَدَقَتِهِ وَيُسَبَّلُ ثَمَرَهَا بِأَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَلِيهَا غَيْرُهُ، قَالَ: فَقَالَ: أَفَيَحْتَمِلُ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَبِّسْ أَصْلَهَا وَسَبِّلْ ثَمَرَهَا اشْتَرَطَ ذَلِكَ؟ قُلْت نَعَمْ وَالْمَعْنَى الْأَوَّلُ أَظْهَرُهُمَا وَعَلَيْهِ مِنْ الْخَبَرِ دَلَالَةٌ أُخْرَى قَالَ وَمَا هِيَ؟ قُلْت إذَا كَانَ عُمَرُ لَا يَعْرِفُ وَجْهَ الْحَبْسِ أَفَيُعَلِّمُهُ حَبْسَ الْأَصْلِ وَسَبْلَ الثَّمَرِ وَيَدْعُ أَنْ يُعَلِّمَهُ أَنْ يُخْرِجَهَا مِنْ يَدَيْهِ إلَى مَنْ يَلِيهَا عَلَيْهِ وَلِمَنْ حَبَسَهَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ لَا تَتِمُّ إلَّا بِأَنْ يُخْرِجَهَا الْمُحَبِّسُ مِنْ يَدَيْهِ إلَى مِنْ يَلِيهَا دُونَهُ، كَانَ هَذَا أَوْلَى أَنْ يُعَلِّمَهُ؛ لِأَنَّ الْحَبْسَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِهِ، وَلَكِنَّهُ عَلَّمَهُ مَا يَتِمُّ لَهُ، وَلَمْ يَكُنْ فِي إخْرَاجِهَا مِنْ يَدَيْهِ شَيْءٌ يَزِيدُ فِيهَا، وَلَا فِي إمْسَاكِهَا يَلِيهَا هُوَ شَيْءٌ يُنْقِصُ صَدَقَتُهُ، وَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ الْمُتَصَدِّقُ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَلِي فِيمَا بَلَغَنَا صَدَقَتَهُ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَلَمْ يَزَلْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَلِي صَدَقَتَهُ بِيَنْبُعَ حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَمْ تَزَلْ فَاطِمَةُ - عَلَيْهَا السَّلَامُ - تَلِي صَدَقَتَهَا حَتَّى لَقِيَتْ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
(قَالَ الشَّافِعِيُّ): أَخْبَرَنَا بِذَلِكَ أَهْلُ الْعِلْمِ مِنْ وَلَدِ فَاطِمَةَ وَعَلِيٍّ وَعُمَرَ وَمَوَالِيهِمْ وَلَقَدْ حَفِظْنَا الصَّدَقَاتِ عَنْ عَدَدٍ كَثِيرٍ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ لَقَدْ حَكَى لِي عَدَدٌ كَثِيرٌ مِنْ أَوْلَادِهِمْ وَأَهِلِيهِمْ أَنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا يَلُونَ صَدَقَاتِهِمْ حَتَّى مَاتُوا يَنْقُلُ ذَلِكَ الْعَامَّةُ مِنْهُمْ عَنْ الْعَامَّةِ لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ، وَإِنَّ أَكْثَرَ مَا عِنْدَنَا بِالْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ مِنْ الصَّدَقَاتِ لَكَمَا وَصَفْت لَمْ يَزَلْ يَتَصَدَّقُ بِهَا الْمُسْلِمُونَ مِنْ السَّلَفِ يَلُونَهَا حَتَّى مَاتُوا وَأَنَّ نَقْلَ الْحَدِيثِ فِيهَا كَالتَّكَلُّفِ، وَإِنْ كُنَّا قَدْ ذَكَرْنَا بَعْضَهُ قَبْلَ هَذَا.
فَإِذَا كُنَّا إنَّمَا أَجَزْنَا الصَّدَقَاتِ، وَفِيهَا الْعِلَلُ الَّتِي أَبْطَلَهَا صَاحِبُك بِهَا مِنْ قَوْلِ شُرَيْحٍ جَاءَ مُحَمَّدٌ بِإِطْلَاقِ الْحَبْسِ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَالٌ مَمْلُوكًا ثُمَّ يُخْرِجُهُ مَالِكُهُ مِنْ مِلْكِهِ إلَى غَيْرِ مَالِكٍ لَهُ كُلَّهُ إلَّا بِالسُّنَّةِ وَاتِّبَاعِ الْآثَارِ فَكَيْفَ اتَّبَعْنَاهُمْ فِي إجَازَتِهَا وَإِجَازَتُهَا أَكْثَرُ وَنَتْرُكُ اتِّبَاعَهُمْ فِي أَنْ يَحُوزَهَا كَمَا حَازُوهَا، وَلَمْ يُوَلُّوهَا أَحَدًا؟ فَقَالَ: فَمَا الْحِصَّةُ فِيهِ مِنْ الْقِيَاسِ؟ قُلْت لَهُ لَمَّا «أَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُحْبَسَ الْأَصْلُ أَصْلُ الْمَالِ وَتُسَبَّلَ الثَّمَرَةُ» دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ أَجَازَ أَنْ يُخْرِجَهُ مَالِكُ الْمَالِ مِنْ مِلْكِهِ بِالشَّرْطِ إلَى أَنْ يَصِيرَ الْمَالُ مَحْبُوسًا لَا يَكُنْ لِمَالِكِهِ بَيْعُهُ، وَلَا أَنْ يَرْجِعَ إلَيْهِ بِحَالٍ كَمَا لَا يَكُونُ لِمَنْ سَبَّلَ ثَمَرَهُ عَلَيْهِ بَيْعُ الْأَصْلِ، وَلَا مِيرَاثِهِ فَكَانَ هَذَا مَالًا مُخَالِفًا لِكُلِّ مَالٍ سِوَاهُ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَالٍ سِوَاهُ يَخْرُجُ مِنْ مَالِكِهِ إلَى مَالِكٍ فَالْمَالِكُ يَمْلِكُ بَيْعَهُ وَهِبَتَهُ وَيَجُوزُ لِلْمَالِكِ الَّذِي أَخْرَجَهُ مِنْ مِلْكِهِ أَنْ يَمْلِكَهُ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْ يَدَيْهِ بِبَيْعٍ وَهِبَةٍ وَمِيرَاثٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ الْمِلْكِ وَيُجَامِعُ الْمَالُ الْمَحْبُوسُ الْمَوْقُوفُ الْعِتْقَ الَّذِي أَخْرَجَهُ مَالِكُهُ مِنْ مَالِهِ بِشَيْءٍ جَعَلَهُ اللَّهُ إلَى غَيْرِ مِلْكِ نَفْسِهِ، وَلَكِنْ مَلَّكَهُ مَنْفَعَةَ نَفْسِهِ بِلَا مِلْكٍ لِرَقَبَتِهِ كَمَا مَلَّكَ الْمُحْبِسُ مِنْ جَعْلِ مَنْفَعَةِ الْمَالِ لَهُ بِغَيْرِ مِلْكٍ مِنْهُ لِرَقَبَةِ الْمَالِ وَكَانَ بِإِخْرَاجِهِ الْمِلْكَ مِنْ يَدَيْهِ مُحَرِّمًا عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَمْلِكَ الْمَالَ بِوَجْهٍ أَبَدًا كَمَا كَانَ مُحَرِّمًا أَنْ يَمْلِكَ الْعَبْدَ بِشَيْءٍ أَبَدًا فَاجْتَمَعَا فِي مَعْنَيَيْنِ، وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ مُفَارِقَهُ فِي أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ مَنْفَعَةَ نَفْسِهِ غَيْرُ نَفْسِهِ كَمَا يَمْلِكُ مَنْفَعَةَ الْمَالِ مَالِكٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَالَ لَا يَكُونُ مَالِكًا إنَّمَا يَمْلِكُ الْآدَمِيُّونَ، فَلَوْ قَالَ قَائِلٌ لِمَالِهِ أَنْتَ حُرٌّ لَمْ يَكُنْ حُرًّا، وَلَوْ قَالَ أَنْتَ مَوْقُوفٌ لَمْ يَكُنْ مَوْقُوفًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُمَلِّكْ مَنْفَعَتَهُ أَحَدًا، وَهُوَ إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ أَنْتَ حُرٌّ، فَقَدْ مَلَّكَهُ مَنْفَعَةَ نَفْسِهِ فَقَالَ قَدْ قَالَ فِيهَا فُقَهَاءُ الْمَكِّيِّينَ وَحُكَّامُهُمْ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُمْ يَقُولُونَ قَوْلَك، وَأَبُو يُوسُفَ حِينَ أَجَازَ الصَّدَقَاتِ قَالَ قَوْلَك فِي أَنَّهَا تَجُوزُ، وَإِنْ وَلِيَهَا صَاحِبُهَا حَتَّى يَمُوتَ وَاحْتَجَّ فِيهَا بِأَنَّهُ إنَّمَا أَجَازَهَا اتِّبَاعًا وَأَنَّ الْمُتَصَدِّقِينَ بِهَا مِنْ السَّلَفِ وَلَوْهَا حَتَّى مَاتُوا، وَلَكِنَّا قَدْ ذَهَبْنَا فِيهَا وَبَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ إلَى أَنَّ الرَّجُلَ إنْ لَمْ يُخْرِجْهَا مِنْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute