سَمِعَتْ عَائِشَةَ أَوْ سَمِعَتْ امْرَأَةَ أَبِي السَّفَرِ تَرْوِي «عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْهَا عَنْ بَيْعٍ بَاعَتْهُ مِنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ بِكَذَا وَكَذَا إلَى الْعَطَاءِ ثُمَّ اشْتَرَتْهُ مِنْهُ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ نَقْدًا، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: بِئْسَ مَا اشْتَرَيْت وَبِئْسَ مَا ابْتَعْت، أَخْبِرِي زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا أَنْ يَتُوبَ».
(قَالَ الشَّافِعِيُّ): قَدْ تَكُونُ عَائِشَةُ لَوْ كَانَ هَذَا ثَابِتًا عَنْهَا عَابَتْ عَلَيْهَا بَيْعًا إلَى الْعَطَاءِ؛ لِأَنَّهُ أَجَلٌ غَيْرُ مَعْلُومٍ، وَهَذَا مِمَّا لَا تُجِيزُهُ، لَا أَنَّهَا عَابَتْ عَلَيْهَا مَا اشْتَرَتْ مِنْهُ بِنَقْدٍ وَقَدْ بَاعَتْهُ إلَى أَجَلٍ، وَلَوْ اخْتَلَفَ بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي شَيْءٍ فَقَالَ بَعْضُهُمْ فِيهِ شَيْئًا وَقَالَ بَعْضُهُمْ بِخِلَافِهِ كَانَ أَصْلُ مَا نَذْهَبُ إلَيْهِ أَنَّا نَأْخُذُ بِقَوْلِ الَّذِي مَعَهُ الْقِيَاسُ، وَاَلَّذِي مَعَهُ الْقِيَاسُ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ، وَجُمْلَةُ هَذَا أَنَّا لَا نُثْبِتُ مِثْلَهُ عَلَى عَائِشَةَ مَعَ أَنَّ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ لَا يَبِيعُ إلَّا مَا يَرَاهُ حَلَالًا، وَلَا يَبْتَاعُ مِثْلَهُ، فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا بَاعَ شَيْئًا أَوْ ابْتَاعَهُ نَرَاهُ نَحْنُ مُحَرَّمًا، وَهُوَ يَرَاهُ حَلَالًا لَمْ نَزْعُمْ أَنَّ اللَّهَ يُحْبِطُ مِنْ عَمَلِهِ شَيْئًا، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ فَمِنْ أَيْنَ الْقِيَاسُ مَعَ قَوْلِ زَيْدٍ؟ قُلْت أَرَأَيْت الْبَيْعَةَ الْأُولَى أَلَيْسَ قَدْ ثَبَتَ بِهَا عَلَيْهِ الثَّمَنُ تَامًّا؟ فَإِنْ قَالَ بَلَى، قِيلَ: أَفَرَأَيْت الْبَيْعَةَ الثَّانِيَةَ أَهِيَ الْأُولَى؟ فَإِنْ قَالَ: لَا قِيلَ: أَفَحَرَامٌ عَلَيْهِ أَنْ يَبِيعَ مَالَهُ بِنَقْدٍ، وَإِنْ كَانَ اشْتَرَاهُ إلَى أَجَلٍ؟ فَإِنْ قَالَ: لَا، إذَا بَاعَهُ مِنْ غَيْرِهِ، قِيلَ: فَمَنْ حَرَّمَهُ مِنْهُ؟ فَإِنْ قَالَ: كَأَنَّهَا رَجَعَتْ إلَيْهِ السِّلْعَةُ أَوْ اشْتَرَى شَيْئًا دَيْنًا بِأَقَلَّ مِنْهُ نَقْدًا، قِيلَ إذَا قُلْت: كَانَ لِمَا لَيْسَ هُوَ بِكَائِنٍ، لَمْ يَنْبَغِ لِأَحَدٍ أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْك، أَرَأَيْت لَوْ كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَكَانَ بَاعَهَا بِمِائَةِ دِينَارٍ دَيْنًا وَاشْتَرَاهَا بِمِائَةٍ أَوْ بِمِائَتَيْنِ نَقْدًا؟ فَإِنْ قَالَ: جَائِزٌ، قِيلَ: فَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ أَخْطَأْت كَانَ ثَمَّ أَوْ هَهُنَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ مِائَةَ دِينَارٍ دَيْنًا بِمِائَتَيْ دِينَارٍ نَقْدًا.
فَإِنْ قُلْت: إنَّمَا اشْتَرَيْت مِنْهُ السِّلْعَةَ، قِيلَ فَهَكَذَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَقُولَ أَوَّلًا وَلَا تَقُولُ كَانَ لِمَا لَيْسَ هُوَ بِكَائِنٍ، أَرَأَيْت الْبَيْعَةَ الْآخِرَةَ بِالنَّقْدِ لَوْ انْتَقَضَتْ أَلَيْسَ تُرَدُّ السِّلْعَةُ وَيَكُونُ الدَّيْنُ ثَابِتًا كَمَا هُوَ فَتَعْلَمُ أَنَّ هَذِهِ بَيْعَةٌ غَيْرُ تِلْكَ الْبَيْعَةِ؟ فَإِنْ قُلْت: إنَّمَا اتَّهَمْته، قُلْنَا هُوَ أَقَلُّ تُهْمَةً عَلَى مَالِهِ مِنْك، فَلَا تَرْكَنْ عَلَيْهِ إنْ كَانَ خَطَأً ثُمَّ تُحَرِّمُ عَلَيْهِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَحَلَّ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا وَهَذَا بَيْعٌ وَلَيْسَ بِرِبًا، وَقَدْ رُوِيَ إجَازَةُ الْبَيْعِ إلَى الْعَطَاءِ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ، وَرُوِيَ عَنْ غَيْرِهِمْ خِلَافُهُ، وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا أَنْ لَا يُبَاعَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْعَطَاءَ قَدْ يَتَأَخَّرُ وَيَتَقَدَّمُ، وَإِنَّمَا الْآجَالُ مَعْلُومَةٌ بِأَيَّامٍ مَوْقُوتَةٍ أَوْ أَهِلَّةٍ وَأَصْلُهَا فِي الْقُرْآنِ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ}، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}، فَقَدْ وَقَّتَ بِالْأَهِلَّةِ كَمَا وَقَّتَ بِالْعِدَّةِ وَلَيْسَ الْعَطَاءُ مِنْ مَوَاقِيتِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَقَدْ يَتَأَخَّرُ الزَّمَانُ وَيَتَقَدَّمُ وَلَيْسَ تَسْتَأْخِرُ الْأَهِلَّةُ أَبَدًا أَكْثَرَ مِنْ يَوْمٍ، فَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ مِنْ الرَّجُلِ السِّلْعَةَ فَقَبَضَهَا وَكَانَ الثَّمَنُ إلَى أَجَلٍ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَبْتَاعَهَا مِنْ الَّذِي اشْتَرَاهَا مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ بِنَقْدٍ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ مِمَّا اشْتَرَاهَا بِهِ أَوْ بِدَيْنٍ كَذَلِكَ أَوْ عَرَضٍ مِنْ الْعُرُوضِ سَاوَى الْعَرَضَ مَا شَاءَ أَنْ يُسَاوِيَ، وَلَيْسَتْ الْبَيْعَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ الْبَيْعَةِ الْأُولَى بِسَبِيلٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ كَانَ لِلْمُشْتَرِي الْبَيْعَةُ الْأُولَى إنْ كَانَتْ أَمَةً أَنْ يُصِيبَهَا أَوْ يَهَبَهَا أَوْ يُعْتِقَهَا أَوْ يَبِيعَهَا مِمَّنْ شَاءَ غَيْرَ بَيْعِهِ بِأَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ مِمَّا اشْتَرَاهَا بِهِ نَسِيئَةً؟ فَإِذَا كَانَ هَكَذَا فَمَنْ حَرَّمَهَا عَلَى الَّذِي اشْتَرَاهَا؟ وَكَيْفَ يَتَوَهَّمُ أَحَدٌ؟ وَهَذَا إنَّمَا تَمَلَّكَهَا مِلْكًا جَدِيدًا بِثَمَنٍ لَهَا لَا بِالدَّنَانِيرِ الْمُتَأَخِّرَةِ؟ أَنَّ هَذَا كَانَ ثَمَنًا لِلدَّنَانِيرِ الْمُتَأَخِّرَةِ وَكَيْفَ إنْ جَازَ هَذَا عَلَى الَّذِي بَاعَهَا لَا يَجُوزُ عَلَى أَحَدٍ لَوْ اشْتَرَاهَا؟
(قَالَ الشَّافِعِيُّ): الْمَأْكُولُ وَالْمَشْرُوبُ كُلُّهُ مِثْلُ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ لَا يَخْتَلِفَانِ فِي شَيْءٍ وَإِذَا بِعْت مِنْهُ صِنْفًا بِصِنْفِهِ، فَلَا يَصْلُحُ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ، إنْ كَانَ كَيْلًا فَكَيْلٌ، وَإِنْ كَانَ وَزْنًا فَوَزْنٌ، كَمَا لَا تَصْلُحُ الدَّنَانِيرُ بِالدَّنَانِيرِ إلَّا يَدًا بِيَدٍ وَزْنًا بِوَزْنٍ، وَلَا تَصْلُحُ كَيْلًا بِكَيْلٍ وَإِذَا اخْتَلَفَ الصِّنْفَانِ مِنْهُ فَلَا بَأْسَ بِالْفَضْلِ فِي بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ يَدًا بِيَدٍ وَلَا خَيْرَ فِيهِ نَسِيئَةً
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute