ببغداد، ورجع إلى مصر متوليًا قضاء مصر، ثم استعفى من القضاء، في سنة خمس وأربعين، ومائتين، فأعفي.
ومات في شهر ربيع الأول، سنة خمسين ومائتين، وله ست وتسعون سنة.
قلت: وكان -مع تقدمه في العلم والزهد والتأله- قوالا بالحق، من قضاة العدل، رحمه الله تعالى.
قال بحر بن نصر الخولاني: عرفنا الحارث بن مسكين أيام ابن وهب على طريقة زهادة وورع وصدق حتى مات.
وقال يوسف بن يزيد القراطيسي: قدم المأمون مصر، وبها من يتظلم من عامليه: إبراهيم بن تميم، وأحمد بن أسباط، فجلس الفضل بن مروان الوزير في الجامع، واجتمع الأعيان، وأحضر الحارث بن مسكين ليولى القضاء، فبينا الفضل يكلمه، إذ قال له متظلم: سله -أصلحك الله- عن ابن تميم وابن أسباط. فقال: ليس لذا حضر. قال: أصلحك الله، سله. قال: ما تقول فيهما? فقال: ظالمين غاشمين. قال: فاضطرب المسجد، فقام الفضل، فأعلم المأمون، وقال: خفت على نفسي من ثورة الناس مع الحارث. فطلب الحارث، وقال: ما تقول في هذين? قال: ظالمين غاشمين. قال: هل ظلماك بشيء? قال: لا. قال: فعاملتهما? قال: لا. قال: فكيف تشهد عليهما? قال: كما شهدت أنك أمير المؤمنين، ولم أرك إلا الساعة. قال: اخرج من هذه البلاد، وبع قليلك وكثيرك. وحبسه في خيمة، ثم انحدر إلى البشرود (١)، وأخذه معه، فلما فتح البشرود، طلب الحارث، وسأله عن المسألة التي سأله عنها بمصر، فرد الجواب بعينه. قال: فما تقول في خروجنا? قال: أخبرني ابن القاسم، عن مالك أن الرشيد كتب إليه يسأله عن قتالهم، فقال: إن كانوا خرجوا عن ظلم من السلطان، فلا يحل قتالهم، وإن كانوا إنما شقوا العصا، فقتالهم حلال، فقال: أنت تيس، ومالك أتيس منك ارحل عن مصر قال: يا أمير المؤمنين إلى الثغور? قال: بل بمدينة السلام.
وروى داود بن أبي صالح الحراني، عن أبيه، قال: لما أحضر الحارث مجلس المأمون، جعل المأمون يقول: يا ساعي. يرددها -يعني: يا مرافع- قال: والله ما أنا بساع، ولكني أحضرت، فسمعت، وأطعت، ثم سئلت، عن أمر، فاستعفيت ثلاثًا، فلم أعف، فكان الحق آثر عندي من غيره. فقال المأمون: هذا رجل أراد أن يرفع له علم ببلده، خذه إليك.
(١) البشرود: كورة من كور بطن الريف بمصر. قاله ياقوت في "معجم البلدان".