بلغ قيمة سبع مائة ألف دينار، ثم قلت: واصدقني عما سلم لك. فحسبناه، فإذا هو بثلاث مائة ألف دينار، قلت: فمن له ألف ألف دينار ببغداد؟! هذا وجاهك قائم، فلم تغتم؟ فسجد لله، وحمده، وبكى، وقال: أنقذني الله بك، ما عزاني أحد بأنفع من تعزيتك، ما أكلت شيئًا منذ ثلاث، فأقم عندي لنأكل ونتحدث. فأقمت عنده يومين.
قال التنوخي: اجتمعت بأبي علي -ولد ابن الجصاص- فسألته عما يحكى عن أبيه من أن الإمام قرأ: ﴿وَلا ضَّالِّينَ﴾ [الفاتحة: ٧]، فقال: إي لعمري، "بدلًا من آمين".
وأنه أراد أن يقبل رأس الوزير، فقال: إن فيه دهنًا. فقال: أقبله ولو كان فيه خرا.
وأنه وصف مصحفًا عتيقًا، فقال: كسروي؟ فقال: غالبه كذب، وما كانت فيه سلامة تخرجه إلى هذا، كان من أدهى الناس، ولكن كان يفعل بحضرة الوزير، وكان يحب أن يصور نفسه ببله ليأمنه الوزراء لكثرة خلوته بالخلفاء. فأنا أحدثك بحديث: حدثني أبي أن ابن الفرات لما وزر، قصدني قصدًا قبيحًا كان في نفسه علي، وبالغ، وكان عندي ذلك الوقت سبعة آلاف ألف دينار، عينا وجوهرا، ففكرت، فوقع لي الرأي في السحر، فمضيت إلى داره، فدققت، فقال البوابون: ما ذا وقت وصول إليه؟ فقلت: عرفوا الحجاب أني جئت لمهم. فعرفوهم، فخرج إلي حاجب، فقال: إلى ساعة. فقلت: الأمر أهم من ذلك فنبه الوزير، ودخلت وحول سريره خمسون نفسًا حفظة وهو مرتاع، فرفعني، وقال: ما الأمر؟ قلت: خير، هو أمر يخصني. فسكن، وصرف من حوله، فقلت: إنك قصدتني، وشرعت يا هذا تؤذيني، وتتفرغ لي، وتعمل في هلاكي، ولعمري لقد أسأت في خدمتك، ولقد جهدت في استصلاحك، فلم يغن، وليس شيء أضعف من الهر، وإذا عاث في دكان الفامي، فظفر به، ولزه، وثب وخمش، فإن صلحت لي وإلا -والله- لأقصدن الخليفة، وأحمل إليه ألفي ألف دينار، وأقول: سلم ابن الفرات إلى فلان وأعطه الوزارة، فيفعل، ويعذبك، ويأخذ منك في قدرها، ويعظم قدري بعزلي وزيرًا وإقامتي وزيرًا. فقال: يا عدو الله! وتستحل هذا؟ قلت: أنت أحوجتني، وإلا فاحلف لي الساعة على إنصافي. فقال: وتحلف أنت كذلك: وعلي حسن الطاعة والمؤازرة؟ قلت: نعم. فقال: لعنك الله يا إبليس، لقد سحرتني. وأخذ دواة، وعملنا نسخة اليمين، وحلفته أولًا، ثم قال: يا أبا عبد الله! لقد عظمت في نفسي، ما كان المقتدر عنده فرق بين كفاءتي وبين أصغر كتابي مع الذهب، فاكتم ما جرى. فقلت: سبحان الله! ثم قال: تعال غدا، فسترى ما أعاملك به. فعدت إلى داري، وما طلع الفجر. فقال: ابنه أفهذا فعل من يحكى عنه تلك الحكايات؟ قلت: لا.
قلت: لعل بهذه الحركة أضمر له الوزير الشر، فنسأل الله السلامة.
توفي ابن الجصاص في شوال، سنة خمس عشرة وثلاث مائة، وقد أسن.