وقد كان حصل قحط بمصر، فبذل له غير واحد عطاءً، فأبى وقنع، فخطب الفضل بن يحيى الطويل إليه بنته، فزوجه، ثم طلب منه أمها لتؤنسها، ففعل، فما أجمل تلطف هذا المرء في بر أبي العباس؟
قال السلفي: كان ابن الحطيئة رأسًا في القراءات، وقرأت بخط أبي الطاهر بن الأنماطي قال: سمعت شيخنا شجاعًا المدلجي وكان من خيار عباد الله يقول: كان شيخنا ابن الحطيئة شديدًا في دين الله، فظًا غليظًا على أعداء الله، لقد كان يحضر مجلسه داعي الدعاة مع عظم سلطانه ونفوذ أمره، فما يحتشمه، ولا يكرمه، ويقول: أحمق الناس في مسألة كذا وكذا الروافض، خالفوا الكتاب والسنة، وكفروا بالله، وكنت عنده يومًا في مسجده بشرف مصر وقد حضره بعض وزراء المصريين أظنه ابن عباس، فاستسقى في مجلسه، فأتاه بعض غلمانه بإناء فضة، فلما رآه ابن الحطيئة وضع يده على فؤاده، وصرخ صرخةً ملأت المسجد، وقال: واحرها على كبدي! أتشرب في مجلس يقرأ فيه حديث رسول الله ﷺ في آنية الفضة?! لا والله لا تفعل، وطرد الغلام، فخرج، وطلب الشيخ كوزًا، فجيء بكوز قد تثلم، فشرب، واستحيى من الشيخ، فرأيته والله كما قال الله: ﴿يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِغُهُ﴾ [إبراهيم: ١٧].
قال: وأتى رجل إلى شيخنا ابن الحطيئة بمئزر، وحلف بالطلاق ثلاثًا لا بد أن يقبله، فوبخه على ذلك، وقال: علقه على ذاك الوتد. فلم يزل على الوتد حتى أكله العث، وتساقط، وكان ينسخ بالأجرة، وكان له على الجزية في السنة ثلاثة دنانير، ولقد عرض عليه غير واحد من الأمراء أن يزيد جامكيته، فما قبل، وكان له من الموقع في قلوبهم مع كثرة ما يهينهم ما لم يكن لأحد سواه، وعرضوا عليه القضاء بمصر، فقال: والله لا أقضي لهم .. إلى أن قال شجاع: وكتب صحيح مسلم كله بقلم واحد، وسمعته وقيل له: فلان رزق نعمةً ومعدةً، فقال: حسدوه على التردد إلى الخلاء، وسمعته كثيرًا إذا ذكر عمر بن الخطاب ﵁ يقول: طويت سعادة المسلمين في أكفان عمر.
وذكرنا في "طبقات القراء" أن الناس بقوا بمصر ثلاثة أشهر بلا قاض في سنة ثلاث وثلاثين، فوقع اختيار الدولة على الشيخ أبي العباس، فاشترط عليهم شروطًا صعبةً، منها أنه لا يقضي بمذهبهم يعني الرفض، فلم يجيبوا إلَّا أن يقضي على مذهب الإمامية.
تلوت بالسبع من طريقه على أبي عبد الله محمد بن منصور النحوي، عن الكمال العباسي، عن شجاع المدلجي، عنه.