البحر المحيط ينصب إليها نهر عظيم، ويمر في البحر عبر النهر، وضربت له خيمة، وجعلت جيوشه تعبر قبيلةً قبيلةً، فخر ساجدًا، ثم رفع وقد بل الدمع لحيته، فقال: أعرف ثلاثةً وردوا هذه المدينة، لا شيء لهم إلَّا رغيف واحد، فراموا عبور هذا النهر، فبذلوا الرغيف لصاحب القارب على أن يعدي بهم، فقال: لا آخذه إلَّا عن اثنين، فقال أحدهم وكان شابًا: تأخذ ثيابي وأنا أسبح، ففعل، فكان الشاب كلما أعيا، دنا من القارب، ووضع يده عليه يستريح، فيضربه بالمجذاف، فما عدى إلَّا بعد جهد. فما شك السماعون أنه هو السابح، والآخران ابن تومرت، وعبد الواحد الشرقي.
قال: ثم نزل عبد المؤمن مراكش، وأقبل على البناء والغراس وترتيب ملكه، وبسط العدل، وبقي ابنه عبد الله ببجاية يشن الغارات على نواحي إفريقية، وضايق تونس، ثم حاصرها مدةً، وأفسد مياهها، وقطع أشجارها، وبها ابن خراسان نائب صاحب صقلية لوجار بن الدوقة الرومي، فطال على ابن خراسان الحصار، فبرز، والتقى الموحدين، فهزمهم، وقتل خلقًا منهم، فبعث عبد الله يستمد أباه، فتهيأ في سنة ٥٥٣ لتونس، وأقبل في جيوشه حتى نازلها، فأخذها عنوةً، وانتقل إلى المهدية وهي للنصارى لكن رعيتها مسلمون، فطال الحصار لحصانتها، يقال: عرض سورها ممر ستة أفراس، وأكثرها في البحر، فكانت النجدات تأتيها من صقلية.
قال ابن الأثير: نازل عبد المؤمن المهدية، فبرز شجعان الفرنج، فنالوا من عسكره، فأمر ببناء سور عليهم، وصابرها، وأخذ سفاقس وطرابلس وقابس، وجرت أمور وحروب يطول شرحها، وجهز من افتتح توزر وبلاد الجريد، وطرد عنها الفرنج، وطهر إفريقية من الكفر، وتكمل له ملك المغرب من طرابلس إلى السوس الأقصى وأكثر مملكة الأندلس، ولو قصد مصر لأخذها، ولما صعبت عليه.
وقيل: إنه مر بقريته ليصل بها ذوي رحمه، ويزور قبر أمه، فلما أطل عليها وجيوشه قد ملأت الفضاء، والرايات والبنود على رأسه، وضرب نحو من مائةي طبل، وطبولهم كبار جدًا تزعج الأرض، فقالت عجوز منهم: هكذا يعود الغريب إلى بلده?! وصاحت بذلك.
ولما دخلت سنة ثمان وخمسين أمر الجيش بالجهاز لجهاد الروم، واستنفر الناس عامًا، ثم سار حتى نزل بسلا، فمرض، وجاءه الأجل بها في السابع والعشرين من جمادى الآخرة، وارتجت المغرب لموته، وكان قد جعل ولي عهده ابنه محمدًا، وكان لا يصلح لطيشه وجذام به ولشربه الخمر، فتملك أيامًا، وخلعوه، واتفقوا على تولية أخيه يوسف بن عبد المؤمن، فبقي في الملك اثنتين وعشرين سنة. وخلف عبد المؤمن ستة عشر ولدًا ذكرًا.
قال صاحب كتاب "الجمع": وقفت على كتاب كتبه عن عبد المؤمن بعض كتابه: من الخليفة المعصوم الرضي الزكي، الذي بشر به النبي العربي، القامع لكل مجسم غوي، الناصر لدين الله العلي، أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي.