قال: وكان له برسم نفقة خاصة في الشهر من الجزية ما يبلغ ألفي قرطاس يصرفها في كسوته ومأكوله وأجرة طباخه وخياطه كل ستين قرطاسًا بدينار.
قال سبط الجوزي: كان له عجائز، فكان يخيط الكوافي، ويعمل السكاكر، فيبعنها له سرًا، ويفطر على ثمنها.
قال ابن واصل: كان من أقوى الناس قلبًا وبدنًا، لم ير على ظهر فرس أحد أشد منه، كأنما خلق عليه لا يتحرك، وكان من أحسن الناس لعبًا بالكرة، يجري الفرس ويخطفها من الهواء، ويرميها بيده إلى آخر الميدان، ويمسك الجوكسان بكمه تهاونًا بأمره، وكان يقول: طالما تعرضت للشهادة، فلم أدركها.
قلت: قد أدركها على فراشه، وعلى ألسنة الناس: نور الدين الشهيد، والذي أسقط من المكوس في بلاده ذكرته في "تاريخنا الكبير" مفصلًا، ومبلغه في العام خمس مائة ألف دينار، وستة وثمانون ألف دينار، وأربعة وسبعون دينارًا من نقد الشام، منها على الرحبة ستة عشر ألف دينار، وعلى دمشق خمسون ألف وسبع مائة ونيف، وعلى الموصل ثمانية وثلاثون ألف دينار، وعلى جعبر سبعة آلاف دينار ونيف، وفي الكتاب: فأيقنوا أن ذلك إنعام مستمر على الدهور، باق إلى يوم النشور، فـ ﴿كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ﴾ [سبأ: ١٥]، ﴿فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ﴾ [البقرة: ١٨١]. وكتب في رجب سنة سبع وستين وخمس مائة.
قال سبط الجوزي: حكى لي نجم الدين بن سلام عن والده أن الفرنج لما نزلت على دمياط، ما زال نور الدين عشرين يومًا يصوم ولا يفطر إلَّا على الماء، فضعف وكاد يتلف، وكان مهيبًا، ما يجسر أحد يخاطبه في ذلك، فقال إمامه يحيى: إنه رأى النبي ﷺ في النوم يقول: يا يحيى، بشر نور الدين برحيل الفرنج عن دمياط. فقلت: يا رسول الله، ربما لا يصدقني. فقال: قل له: بعلامة يوم حارم. وانتبه يحيى، فلما صلى نور الدين الصبح، وشرع يدعو، هابه يحيى، فقال له: يا يحيى، تحدثني أو أحدثك? فارتعد يحيى، وخرس، فقال: أنا أحدثك، رأيت النبي ﷺ هذه الليلة، وقال لك كذا وكذا. قال: نعم، فبالله يا مولانا، ما معنى قوله: بعلامة يوم حارم? فقال: لما التقينا العدو، خفت على الإسلام، فانفردت، ونزلت، ومرغت وجهي على التراب، وقلت: يا سيدي من محمود في البين، الدين دينك، والجند جندك، وهذا اليوم افعل ما يليق بكرمك. قال: فنصرنا الله عليهم.