ماردة بغرب الأندلس، واستدعي الناس من الأقطار، فانتدب الخلق له بجد واجتهاد وخلوص نية المرتزقة والمطوعة، واجتمع عليه أهل الأندلس كلهم، ولم يبق إلَّا من حبسه العذر، فدخل بهم إلى الإفرنج، فلما تراءى الجمعان وقت الهزيمة على المسلمين أقبح هزيمة فإنا لله وإنا إليه راجعون، وكانت تلك الأرض مديسة بماء وعزق تسمرت فيها الخيل إلى آباطها، وهلك الخلق، وأتبعهم الفرنج بالقتل والأسر ولم يبق إلَّا القليل، ورجع ابن هود في أسوأ حال إلى إشبيلية، فنعوذ به من سوء المنقلب، فلم تبق بقعة من الأندلس إلَّا وفيها البكاء والصياح العظيم والحزن الطويل، فكانت إحدى هلكات الأندلس، فمقت الناس ابن هود، وصاروا يسمونه المحروم، ولم يقدر أن يفعل مع الفرنج كبير فعل قط إلَّا مرة أخذ لهم غنمًا كثيرة جدًا، ثم قام عليه شعيب بن هلالة بلبلة، فصالح ابن هود الأدفوش على محاصرة لبلة ومعاونته على أن يعطيه قرطبة، واتفقا على ذلك، وقال له: لا يسوغ أن يدخلها الفرنج على البديهة، وإنما تهمل أمرها، وتخليها من حرس، ووجه أنت الفرنج يتعلقون بأسوارها بالليل ويغدرون بها، ففعلوا كذلك. ووجه ابن هود إلى واليه بقرطبة فأعلمه بذلك، وأمره بضياعها من حيز الشرقية فجاء الفرنج فوجدوه خاليًا، فجعلوا السلام واستووا على السور فلا حول ولا قوة إلَّا بالله.
وكانت قرطبة مدينتين: إحداهما الشرقية والأخرى المدينة العظمى، فقامت الصيحة والناس في صلاة الفجر، فركب الجند وقالوا للوالي: اخرج بنا للملتقى، فقال: اصبروا حتى يضحي النهار، فلما أضحى ركب وخرج معهم، فلمًا أشرف على الفرنج قال: ارجعوا حتى ألبس سلاحي! فرجع بهم وهم يصدقونه، وذا أمر قد دبر بليل، فدخل الفرنج على أثرهم، وانتشروا، وهرب الناس إلى البلد، وقتل خلق من الشيوخ والولدان والنسوان، ونهب للناس ما لا يحصى، وانحصرت المدينة العظمى بالخلق فحاصرهم الفرنج شهورًا، وقاتلوهم أشد القتال، وعدم أهلها الأقوات، ومات خلق كثير جوعًا، ثم اتفق رأيهم مع أدفونش -لعنه الله- على أن يسلموها ويخرجوا بأمتعتهم كلها، ففعل، ووفى لهم، ووصلهم إلى مأمنهم في سنة أربع وثلاثين وست مائة.
قلت: ولم يمتع بعدها ابن هود، بل أخذه الله في سنة خمس، فكانت دولته تسعة أعوام وتسعة أشهر وتسعة أيام، وهلك بالمرية جهز عليه من غمه وهو نائم، وحمل إلى مرسية فدفن هناك، ولم يمت حتى قوي أمر الموحدين وقام بعده محمد بن يوسف بن نصر ابن الأحمر، ودام الملك في ذريته. وقدم علينا دمشق ابن أخيه الزاهد الكبير بدر الدين بن هود، ورأيته، وكان فلسفي التصوف يشرب الخمر، أخذه الأعوان مخمورًا!