للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقوم بنفسه بادئ الأمر بمهمة القضاء، ويفصل في الخصومات، ويحكم في الناس بما أنزل الله عليه، فيما كانوا يختلفون فيه من قضاياهم؛ سواء منها ما يتصل بالحقوق أم بالتصرفات، وكان يوجه بعض أصحابه ويرشدهم لممارسته تحت نظره وبإشرافه، ولما اتسعت دائرة الدولة في زمنه - صلى الله عليه وسلم - ثم في زمن الخلفاء من بعده، وتعاظمت المشكلات وتعقدت، وأصبح الاحتكام إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أو إلى الخلفاء أمرًا متعذرًا أو تكتنفه الكثير من الصعوبات، بات تعيين القضاة وتوزيعهم في الأمصار والأقاليم المتباعدة أمرًا ضروريًا تسهيلًا على الناس؛ ولأن ذلك يحقق المقصد من تشريع القضاء، وهو تثبيت العدل، ومنع الظلم، وإيصال الحقوق إلى أصحابها، وإزالة أسباب التنازع والخصام، فنصب النبي - صلى الله عليه وسلم - بنفسه من يتولى مثل هذه المهمة، ممن تتوفر فيهم شروط الأهلية والكفاءة، والورع والدين، وكذلك فعل الخلفاء من بعده، فنصبوا من القضاة من يثقون بورعهم وعلمهم وبمعرفتهم الواسعة بالقضايا والمشكلات التي تعرض عليهم ... وبدينهم الذي يسمح لهم بالقيام بواجبهم وفق ما تقتضيه أحكام الشريعة ومبادئ العدالة توثيق.

ولقد كان يتوسع عمل القضاة بتوسع أقطار الدولة الإسلامية من جهة، ويتعقد المشكلات التي تعرض أمام القضاء وتشعبها واتساعها وبتعقد أمور الحياة ومشكلاتها من جهة أخرى، فكان لا بد من تنظيم شؤون القضاء ليواكب التطور الذي كانت تتجه نحوه مرافق الدولة ومؤسساتها من جهة وليواكب الحاجات المتجددة من جهة أخرى؛ فأصبح القضاء شيئا فشيئا مؤسسة لها نظامها الذي يكفل لها سلامة عملها، وقوانينها وتشريعاتها الواضحة التي كان يمدها الاجتهاد الشرعي بما يكفل لها أن تقوم بدورها على أحسن حال وأفضل صورة توثيق.

وإن مما استوجبته التعقيدات الحادثة والنوازل تنويع الاختصاصات القضائية، الجهة أن القاضي الواحد مهما أوتي من علم بالشريعة، وإحاطة بالأحكام وخبرة بممارسة القضاء، ومهما كانت مؤهلاته ومَلكاته، ومهما اتسعت معارفه وقدراته وطاقاته، فإنه يصعب عليه، بل يتعذر، أن يكون قادرًا على الفصل في خصومات

<<  <  ج: ص:  >  >>