تؤكد المصادر أن الوقف بنظرته الشمولية، وعمله المنضبط بالنصوص الشرعية، والهادف أولا وأخيرا إلى مرضاة الله عز وجل، لم يُعرف إلا بعد مبعث المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، أما الوقف بنظرته الجزئية وأهدافه الضيقة القائمة على حب السمعة والرياء، وإن كان موجها للمعابد ورجال الدين، وبعض الشرائح الضعيفة في المجتمع؛ فقد عرفته البشرية قديمًا، ولعل هذا ما يُفهم من قول الإمام الشافعي:"ولم تحبس أهل الجاهلية فيما علمته دارًا ولا أرضًا تبرُّرًا بحبسها، وإنما حبس أهل الإسلام"(١).
إن الوقف - بوصفه حبس المال على شيء معين - ظاهرة لا تخطئها العين عند دراسة المخلفات الأثرية للأمم القديمة، فعديد من المعابد والكنس اليهودية والكنائس النصرانية لا تزال قائمة ويعود تاريخها لآلاف السنين؛ مما يؤكد وجود الوقف الديني عند تلك الأمم، حيث كانت تحبس الأراضي والأموال والأدوات الخدمة دور العبادة والكهنة ورجال الدين، وكان الكهنة وسدنة المعابد يوكلون في الكثير من الحالات بتوزيع الإعانات العينية والنقدية على الفقراء والمعوزين لثقة الناس بهم.
وتتحدث الآثار والنقوش المكتشفة حديثًا في مصر عن وقف بعض العقارات على بعض الكهنة في عهد الأسرة الفرعونية الرابعة، وأن رمسيس الثاني منح معبد "آبدوس" أملاكًا واسعة، وأنه نقل ملكية هذه الأراضي في احتفال رسمي أمام الشعب، كما كان بعض أثرياء مصر الفرعونية يخصصون بعض الأراضي الزراعية لصالح الكهنة؛ لتغطية نفقاتهم ونفقات دور العبادة التي يشرفون عليها، وهناك بعض الإشارات المتناثرة التي تشير بأن الفراعنة عرفوا الوقف الذُّرِّي،
(١) الأم، الشافعي، القاهرة، المكتبة القيمة للطباعة والنشر، ١٩٨٩ م، ٤/ ٧٤، والوقف في التشريعات القديمة، محمد بن عبد العزيز بنعبد الله، مرجع سابق،٧٩.