[من وسائل كشف الكربة: العلم بأن الجزع لا يرد المصيبة]
ومما يكشف الكربة عند فقد الأحبة: العلم اليقيني أن الجزع لا يرد المصيبة؛ بل يضاعفها؛ فالجازع يزيد مصيبته، ويُشمِّتُ أعداءه، ويسوء أصدقاءه، ويغضب ربه، ويسر شيطانه، ويحبط أجره، ويضعف نفسه.
أما إذا احتسب وصبر ورضي أخزى شيطانه، وأرضى ربه، وسرَّ صديقه، وساء عدوه، وحمل على إخوانه فعزاهم قبل أن يعزوه.
هذا هو الثبات في الأمر؛ فنسأل الله الثبات في الحياة وفي الممات.
يقول بعض الحكماء: العاقل يفعل في أول يوم من المصيبة ما يفعله الجاهل بعد أيام، ومن لم يصبر صبر الكرام سلى سلوَّ البهائم، وإنما الصبر عند الصدمة الأولى.
إذا أنت لم تَسْلُ اصطباراً وحسبةً سلَوْتَ على الأيام مثل البهائم
وكل أحد لابد أن يصبر على بعض ما يكره؛ فإما باختيار، وإما باضطرار؛ فالكريم المؤمن يصبر مختاراً لعلمه بحسن عاقبة الصبر، وأنه يُحمد عليه، ويُذَمُّ في المقابل على الجزع، ويعلم أنه إن لم يصبر لم يُعِدْ عليه الجزاء فائتاُ، ولم ينتزع منه مكروهاُ، والمقدور لا حيلة في دفعه، وما لم يُكتب لا حيلة في تحصيله؛ فالجزع ضرُّه أقرب من نفعه؛ فما دام أن آخر الأمر الصبر، والعبد معه غير محمود؛ فما أحسن أن يُستقبَلَ الأمر في أوله بما يستدبره الأحمق في آخره.
إن علم المصاب بما يعقب الصبر والاحتساب من اللذة والمَسَرَّة أضعاف ما يحصل له ببقاء ما أصيب به لو بقي عليه لكان كاشف لكربه لو تأمل ذلك.
يروى عن أنس -رضي الله عنه وأرضاه- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {تُنصَبُ الموازين يوم القيامة، فيُؤتى بأهل الصلاة والصيام والزكاة والحج، فيُوَفَّوْن أجورهم بالموازين، ثم يُؤتى بأهل البلاء، فلا يُنصب لهم ميزان، ولا يُنشر لهم ديوان، ويُصبُّ عليهم الأجر صباً بغير حساب، ثم قرأ قول الله جل وعلا: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:١٠]} وفي الترمذي مرفوعاً: {يودُّ أناسٌ لو أن جلودهم كانت تُقرض بالمقاريض لِما يَروْن من ثواب أهل البلاء} فسبحان من يرحم ببلائه!
قد يُنعم الله بالبلوى وإن عظمت ويبتلي الله بعض القوم بالنعم
هاهي امرأة من السلف قد مات ابنها، فجاءوا يعزونها، ويقولون: يا أمة الله! اتقي الله واصبري.
فقالت: الحمد لله، وإنا لله، مصيبتي أعظم من أن أفسدها بالجزع.
لسان حالها:
كلما ازدادت عليَّ المِحَن وتوالت إِحَنٌ لا تَهِنُ
وكروب تُصطفى في زمن فلِتطهيرٍ وتدريب عميق
واختبار الذهب الصرف الحقيقي
فالجزع -وإن بلغ غايته وإن بلغ نهايته- فآخر أمر الجازع إلى الصبر اضطراراً وهو غير محمود ولا مثاب؛ فإنه استسلم للقدر رغم أنفه، وهذا ليس من الصبر.
على هذا يُذكر أن أعرابياً مات له ولد، فبكي عليه بكاء عظيماً، وجزع عليه جزعاً عظيماً؛ فلما همَّ أن يسلو عن هذا مات له ابن آخر، فقال:
إن أَفِقْ من حزن هاج حزن ففؤادي ما له اليوم سكن
فكما تبلى وجوه في الثرى فكذا يبلى عليهم من حزن
فطوبى للصابرين ثم طوبى ثم طوبى.