للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[بناء العلماء لطلابهم]

وللعلماء -يا أيها الأحبة- خطة تربوية عظيمة في تأديب طلاب العلم سابقاً ولاحقاً، تتفاوت من عصر إلى عصر.

جدير بنا أن نقف عند هذه الخطة التربوية، لقد كانوا يقسون على طلابهم قسوة عظيمة تصل بهم إلى حدٍّ لا يكاد يحتمل، لماذا؟ لأنها قسوة الحازم ليتأدبوا ويتعلموا.

ومن يك حازماً فليقْسُ أحياناً على من يرحم

روى الخطيب البغدادي في كتاب: شرف أصحاب الحديث أن أصحاب الحديث كانوا يهجمون على الإمام الأعمش عليه رحمة الله أبي محمد سليمان بن مهران؛ لأنه إمام ثقة، والرواية عنه شرف، فكانوا يتهافتون عليه، فأراد أن يؤدبهم وأن يختبرهم ليرى هل هم صادقون أم ليسوا بصادقين.

فاشترى كلب صيد، أول ما يسمع قرع الأقدام اقترب من البيت أطلقه عليهم، فيطردهم حتى يخرجوا خارج الحدود، ثم يرجع.

وفي اليوم الثاني هل يئس أولئك الطلاب -طلاب العلم-؟ لا؛ بل عاودوا مرة أخرى إلى بيت الأعمش، وهم على حَذَر، وعلى خوف ووَجَل، ولما قربوا أطلق عليهم الكلب مرة أخرى حتى خرجوا خارج الحدود، ثم عاد.

وفي اليوم الثالث يأتون، وما يئسوا وما فتروا وما قالوا: لا خير في هذا الإمام، وإنما علموا قدر ما عند هذا الإمام وقدره، فصبروا على كل شيء في سبيل أن يحصلوا على حديث واحد من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاءوا في اليوم الثالث، وتقدموا على خوف ووَجَل يتوجسون أن يرسل عليهم الكلب، ووصلوا إلى البيت فلم يخرج عليهم شيء، فاستأذنوا على الإمام، فأذن لهم، ولمَّا دخلوا بكى، قالوا: ما يبكيك يا إمام؟ قال: قد مات الذي كان يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر، يعني الكلب.

ما ترون لو أن عالماً طرد طالب علم ناهيك عن أن يرسل عليه كلباً، هل سيرجع إليه في هذا العصر الذي ماتت فيه الهمم؟ كلا وألف كلا؛ بل لا يسلم من لسانه أبد الدهر؛ لأن الهِمَم ضعيفة، وأي عائق يعيق الضعيف، وأما السلف فلا، بل أقوياء أتقياء؛ فليكن لنا من سِيَرِهم دافع لأعمالهم.

وتشير الأخبار عن الإمام الأعمش -أيضاً- إلى أن تلاميذه كانوا يحتالون عليه ليكتبوا عنه الحديث؛ نظراً لأنه يَضِنُّ عليهم بما لديه، لتربيتهم ولتعريفهم قدر هذا الحديث الذي يأخذونه عنه.

ومن ذلك ما يرويه أحد تلاميذه -وهو عيسى بن يونس - يقول: خرجنا في جنازة من الجنائز، ورجل من طلاب العلم كان يقود الإمام الأعمش فلما دُفنت ورجعنا، عدل بالإمام الأعمش قليلاً قليلاً حتى أصحر به -يعني: حتى أصبح بالإمام في الصحراء- ثم قال: يا إمام! أتدري أين أنت الآن؟ قال: لا.

قال: في جبّانة كذا وكذا، والله لا أردك حتى تملأ ألواحي هذه حديثاً، طالب علم حريص على الحديث، والأعمش لن يستطيع أن يعود إلى بيته، قال: اكتب، حدثنا فلان عن فلان حتى ملأ الألواح التي بين يديْه، ثم قفل به راجعاً، وهو يعرف ماذا سيكون من هذا الإمام؛ فلما دخل الكوفة، دفع الألواح لطالب علم آخر وقال له: خذها واهرب بها، وذهب بـ الأعمش إلى داره، ولما وصل تعلق الأعمش به، وصاح بالناس، وقال: خذوا الألواح من هذا الطالب، فقال: يا أبا محمد! قد فاتت الألواح.

قال: كل ما حدثتك به كذب لئلا ينتفع به، فقال التلميذ -وهو يعرف إمامه- أنت أعلم بالله من أن تكذب.

من يقول حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكذب أبداً، وهو الصحيح فلم يكذب عليه أبداً.

والسؤال المتبادر إلى الذهن -يا طلاب العلم- هل كانوا يبخلون ويضنون بالحديث على طلبة العلم؟ والله ما كانوا كذلك؛ فأحاديثهم تملأ دواوين الإسلام، لكنهم كانوا يُربون أيَّما تربية.

إن هذه الطريقة -يا أيها الأحبة- دواء ناجح لكسر الشموخ والخيلاء التي توجد عند بعض طلبة العلم عندما يتعلم مسألة واحدة من مسائل العلم، فبعضهم يحضر إلى حلقة الشيخ، ويرى أنه هو الشيخ، وبعضهم يحضر إلى الحلقة وقد استحضر نسبه وماله وجاهه؛ فما له إلا أن يؤدب على التواضع للعلم والذل له ليناله؛ فلا ينال العلم مستكبر.

ومن لم يذُقْ مر التعلم ساعة تجرَّع ذُل الجهل طول حياته

فإذا حضرت مجلس علم -يا طالب العلم- فلا يكن حضورك إلا حضور مستزيد علماً وأجراً، لا حضور مستغنٍ بما عنده، ولا حضور طالب عثرة تشنعها، أو غريبة تشيعها؛ فهده أفعال الأراذل الذين لا يفلحون في طلب العلم أبداً؛ فإذا حضرت على هذه النية فقد حصَّلت خيراً على كل حال؛ فإن لم تحضر وهذه النية معك فجلوسك في منزلك أروح لبدنك، وأكرم لخلقك، وأسلم لدينك؛ فإذا حضرت مجلس العلم فإما أن تسكت سكوت الجهال؛ فتحصل على أجر النية في المشاهدة، وعلى الثناء عليك بقلة الفضول، وعلى كرم المجالسة ومودة من تجالس؛ فإن لم تفعل فاسأل سؤال المتعلم؛ فما صفة هذا السؤال؟ أن تسأل عما لا تدري، ولا تسأل عما تدري؛ فإن السؤال عما تعلمه سُخف، وقلة عقل، وقطع لزمانك ولزمان غيرك بما لا فائدة فيه، وربما أدى إلى اكتساب العداوات، وهو عين الفضول: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل:٤٣] فإذا سألت وأجابك بما فيه كفاية لك، فاقطع الكلام؛ فإن لم يجبك بما فيه الكفاية فاستزده؛ فإن لم تفهم فقل: لم أفهم واستزده؛ فإن لم يزدك أو سكت أو عاد عليك الكلام الأول بلا مزيد فأمسك عنه، وإلا حصلت على العداوة، ولم تحصل على ما تريد من الزيادة، وإياك وسؤال العَنِت والمُكابِر الذي يطلب الغلبة، ويبين أن عنده علماً؛ فإن ذلك دليل على سوء الخلق، وعلى قلة الدين، وعلى كثرة الفضول، وضعف العقل والسخف: {وإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم}.