للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[العبرة بالمسميات لا بالأسماء]

الهداية على الحقيقة لا الخيال استقامةٌ حقةٌ على تكاليف الدين، والتزامٌ بها، وعدم سلوك ما يناقضها.

حقيقة الهداية ليست بمجرد الانتساب، أعني: الانتساب إلى الدين مع ارتكاب كل مناقضٍ له:

إذا اعتلت الأفعال جاءت عليلةً كحالاتها أسماؤها والمصادر

أما إن الحق لا يثبت بالدعوى ولكن بالدليل، وإن العبرة بالمسميات لا بالأسماء فحسب، وبالأفعال لا بالأقوال فقط، ولو أن كل من سمته أمه صالحاً كان صالحاً على الحقيقة، وكل من سمي عادلاً كان عدلاً على الحقيقة، لكنا سعداء بكثرة الصالحين والعدول فينا، ولو أن كل من تسمى حسناً لا يأتي إلا الفعل الحسن، لعظم وطغى الحسن على القبيح، ولكن وراء هذه الأسماء والألقاب الجميلة أفق الواقع تتهاوى فيه كثيرٌ من هذه الأسماء والألقاب، وتنفلق فلا تجد إلا الحقيقة من فعلٍ يصدق ذلك أو يكذبه:

ومن يقل الغراب أبو القمارى يكذبه إذا نعب الغرابُ

ذكر أبو الفرج أن تأبط شراً الشاعر ثابت بن جابر لقي ذات مرة رجلاً من ثقيف يكنى بأبي وهب، وكان رجلاً أهوج أحمق وعليه حلةٌ جميلة فارهة، فقال أبو وهب لـ تأبط شراً: بم تغلب الرجال يا ثابت: كيف تغلب الرجال وأنت كما أرى دميم ضئيل؟ -نظر إلى المظاهر وترك الحقائق- قال ثابت: أغلبهم باسمي، إنما أقول ساعة ألقى الرجل: أنا تأبط شراً، فينخلع قلبه حتى أنال منه ما أردت.

فقال الثقفي: أبهذا فقط؟!

قال: ليس إلا.

قال: فهل لك أن تبيعني اسمك؟

قال: نعم ولكن ما الثمن؟

قال: هذه حلةٌ جميلة مع كنيتي، قال: أفعل، ففعل، وعندها قال تأبط شراً: لك اسمي ولي اسمك، وأخذ الحلة وأعطاه طمريه، ثم انصرف تأبط شراً وهو يقول مخاطباً زوجة الثقفي:

ألا هل أتى الحسناء أن حليلها تأبط شراً واكتنيت أبا وهبٍ

فهبه تسمى اسمي وسماني اسمه فأين له صبري على معظم الخطبِ؟!

وأين له بأسٌ كبأسي ونجدتي؟! وأين له في كل فادحةٍ قلبي؟!

مضى وتركه وهو يعيش باسمٍ دون مسمى، وخيالٍ أشبه بالخبال.

وبعض الداء ليس له شفاءُ وداء الحمق ليس له دواءُ

لكأنك به عند أول لقاء وقد هزم، وذهبت حلته وبقي له حمقه وكنيته، وحاله:

وفي الهيجاء ما جربت نفسي ولكن في الهزيمة كالغزال

إخوتي في الله! ليس كل من تزيا بزي الشجعان، وأخذ ألقابهم وأسماءهم وكناهم، وتحدث حديثهم، وردد عباراتهم وشعاراتهم يعتبر شجاعاً، حتى يكون في ذاته وهمه وشعوره، وتصوره وإقدامه وقوة قلبه كالشجعان حقاً، ليس كل من ارتدى مسوح أهل العلم، وإن كان في غاية البلادة في الفهم، والضحالة في العلم، والغباء في الذهن، ورسوخ الجهل؛ يعتبر عالماً حتى يكون في همته وشعوره، وتصوره وإدراكه، وفهمه واتباعه وخشيته كالعلماء حقاً.

من ادعى وصف الكرام البررة فاستشهدوا أخلاقه وسيره

ليس كل من تزيا بزي المستقيمين المهتدين، ولبس لباسهم، وردد ألفاظهم؛ يعتبر مستقيماً مهتدياً حقاً، حتى يكون في شعوره وولائه، وحبه وبغضه، وهمته وجديته، وسمته وخلقه، وتعامله وكبح جماح نفسه على الخير كالمستقيمين حقاً.

ليس كل من ادعى سبيلاً، وتشدق بأبعاده ومراميه يكون من أهل ذلك السبيل؛ حتى يكون بفصيح لسانه وبليغ ما يخط بنانه ويعتقد جنانه حقاً كما قال، فليست العبرة بالمظاهر فحسب، بل بالمظاهر مع الحقائق، فاعلم وعِ:

لا يخلبنك بارقٌ متلمعُ إن البروق تكون في ظلمائها