[من مواقفه حين تولى الخلافة]
تولى الخلافة فكان مجدداً بحق -رضي الله عنه ورحمه- كانت خلافته ثلاثين شهراً لكنها خير من ثلاثين قرناً، لم يضيعها في كسب دنيوي ولا شهوة عاجلة، لكنه جعلها لله رب العالمين فبارك الله في سنتين ونيف.
بويع بالخلافة، وقام ليلقي أول خطاب له على المنبر فتعثر في طريقه إلى المنبر، تعثر من ثقل المسئولية، وتعثر من خوف رب البرية.
وقف يتحدث للناس قائلا: لقد بُوْيِعت بالخلافة على غير رغبة مني، وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتى، فاختاروا لأنفسكم.
فصاح الناس صيحة واحدة ممزوجة بالبكاء: قد اخترناك ورضينا بك.
فبكى وقال: الله المستعان.
ثم أوصاهم من على المنبر قائلاً: أُوصيكم بتقوى الله؛ فإن تقوى الله خَلَفٌ من كل شيء، من أطاع الله وجبت طاعته، ومن عصى الله فلا طاعة له، ثم رفع صوته: أطيعوني ما أطعت الله، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم.
ونزل عن المنبر.
وبعد ذلك تُعرض له الدواب والخيل ليركبها؛ لتكون موكبه إلى قصر الخلافة كما كان يفعل أسلافه فأعرض عنها قائلاً: ما أنا إلا رجل من المسلمين أَغْدو كما يغدون وأَرُوْحُ كما يروحون.
عاد لبيته معلناً أن من تواضع لله رفعه، ترك قصر الخلافة، ونزل غرفته المتواضعة وجلس حزيناً يئن تحت وطأة المسئولية، ثم استدعى زوجه فاطمة -بدأ بالأقربين- استدعى فاطمة الزاهدة العابدة بنت الخليفة وأخت الخلفاء.
بنتُ الخليفة والخليفة جدها أختُ الخلائف والخليفة زوجها
قال لها: إني بعتُ نفسي من الله، فإن كنت تريدين العيش معي فحيهلا، وإلا فالحقي بأهلك، هذه الحُلِي التي تلبسينها تعلمين من أين أتى لك بها أبوك؟ رديها إلى بيت المال، والله لا أجتمع مع هذه الحلي في دار أبداً بعد اليوم.
قالت الزاهدة الراغبة فيما عند الله: بل أردها والحياة حياتك يا عمر، وللآخرة خير وأبقى.
خرج إلى الأمة ليردها إلى الله الواحد القهار، فكان فعله يصدق قوله، وكان لا يشغله عن الله شاغل، لَيْلُه قيام وبكاء وخشوع وتضرع، ونهاره عدل وإنصاف ودعوة وبذل وعطاء.
فما ليلنا ونهارنا يا عباد الله؟!
إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، اللهم ردنا إليك رداً جميلاً يا قيم السماوات والأرضين.
ملأ الأرض عدلاً بعد أن كادت تُملأ جوراً، هيه يا عمر!
قد عشت عمرك زاهداً في كل ما جمع البشر
أتعبت من سيجيء بعدك في الإمارة يا عمر!
بعد كل صلاة ينادي مناديه: أين الفقراء؟ أين المحتاجون؟ فيقدم لهم الطعام والأموال، فلا والله ما تنساه البطون الجائعة ولا الأكباد الظامئة، ما دام في الأرض بطنٌ جائع أو كَبِدٌ ظمآن.
هو البحر من أي النواحي أَتَيْتَه فلُجَته المعروفُ والجودُ ساحله
ولو لم يَكُ في كفه غير روحه لجاد بها فليتق الله سائله
رزقه الله الخَشْيَة، ومن رُزِقَ الخشية فقد رُزِق خيراً كثيراً، والذي يجعل الله نصب عينيه يفتح الله عليه، فتح الله على عمر فتحاً لا يخطر بالبال ولا يدور بالخيال، وكان أخوف الناس لله وهو يرجو الأمان من الله بإذنه: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:٨٨ - ٨٩].
ففي الحديث القدسي: {وعزتي وجلالي لا أجمع على عبدي خوفين ولا أجمع له أمنَيْن: إن أمِنَني في الدنيا خوفته يوم القيامة، وإن خافني في الدنيا أمَّنْتُه يوم القيامة}.
دخل عليه أحد العباد: وهو كعب القرظي؛ فجعل ينظر في وجهه فإذا به: وَجْهٌ شاحب، وبدنٌ ناحل، كأن جبال الدنيا قد سقطت عليه، فقال: يا عمر! ما دهاك؟ ما أصابك؟ والله لقد رأيتك أجمل فتيان قريش، تلبس اللَّيِّن وتفترش الوثير، لَيِّنُ العيش، نضر البشرة، والله لو دخلت عليك -يا عمر - في غير هذا المكان ما عرفتك.
فينهد عمر باكياً ويقول: أما إنك لو رأيتني بعد ثلاث ليال من دفني، وقد سقطت العينان، وانخسفت الوجنتان، وعاشت في الجوف الديدان، وتغير الخدان، لكنت لحالي من حالي أشد عجباً، وأعظم إنكاراً.
فبكى كعب، وبكى الناس حتى ضج مجلسه بالبكاء.
جعل الهم هماً واحداً، فرضي الله عنه ورحمه، إنه هَمُ الآخرة وكفى.
عرف عمر نفسه ومهمته وغايته وهدفه، ورحم الله امرأً عرف قدر نفسه، فكَسَدَت عنده بضاعة المنافقين والشعراء، وقامت سوق المساكين والفقراء.
يدخل عليه أحد الشعراء فيمدحه، فلم يجد منه سماعاً لما يقول، ولم يعطِه شيئاً فخرج، وهو يقول: رجل يعطي الفقراء ويمنع الشعراء.
وجدت طُرُقَ الشيطان لا تستفزه وقد كان شيطاني من الجن راضيا