[صور من محبته للصالحين وتقريبه لهم]
أدنى الصالحين والعباد، فجعلهم بطانته، وطلب منهم أن يوصوه ويبصروه بعيوبه، يقول لهم: لقد توليت أمر أُمَّة محمد صلى الله عليه وسلم فأعينوني.
فكتب له سالم مولى أبي حذيفة: صُمْ هذا اليوم حتى تلقى الله فتفطر عنده.
وكتب له مطرف بن عبد الله: يا أمير المؤمنين! لو كان لك خصم لدود لأعجزك، فكيف بخصميْن؟ فكيف بثلاثة؟ كيف بك وخصمك أمة محمد-صلى الله عليه وسلم- كلهم؟!!
جمع سبعة من الصالحين، وقال: أنتم جلسائي كل ليلة، لكني أشترط عليكم شروطًا ثلاثة -يا ليتنا نشترط هذه الشروط في مجالسنا، اسمعوها وبلغوها، فَرُب مُبَلَّغٍ أوعى-:
أولها: لا تغتابوا ولا تعيبوا في مجلسي أحداً.
وثانيها: لا تتحدثوا في الدنيا.
وثالثها: ألا تمزحوا وأنا جالس أبداً.
فكانوا يجتمعون بعد العشاء فيتحدثون في الموت وما بعده، ثم ينفضون من مجالسهم وكأنما انفضوا عن جنازة، كتب له أثناء خلافته سالم بن عبد الله كتاباً شديداً يقول فيه: يا أمير المؤمنين! لقد تولى الملك قبلك أناس ثم صُرِعُوا وهاهي مصارعهم، فانظر إليها لترى، كانوا ينظرون بعيون إلى اللذات فأُكلت، ويأكلون في بطون فَنُهِشَتْ، ويميسون بخدود أكلها الدود، فاحذر أن تكون مع المحبوسين في جهنم يوم يُطلق العادلون.
فلما قرأ ذلك انهد باكياً، قائلاً: اللهم لا تجعلني مع المحبوسين يوم يُطلق العادلون.
حمل هم الأمة، خلع كل لباس إلا لباس التقوى، لم يُفنِ قليلاً ولا كثيراً، همُّه الآخرة لا الدنيا، كانت له نظرة مختلفة عن نظرات الناس، حج مع الناس وأخذ الناس يتسابقون يوم عرفة مع الغروب إلى مزدلفة، وهو يدعو ويتضرع ويقول: لا والله ليس السابق من سبق اليوم جواده وبعيره، إن السابق من غُفِر له هذا اليوم.
كان شديد المراقبة والخوف من الله، إذا أراد النوم ارتجف صدره، فتقول زوجه: ما بك يا عمر؟ قال: تذكرت قول الله تعالى: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:٧] فخفت خوفاً أورثني ما تَرَين.
فما حالنا مع القرآن؟
عمي عن الذكر والآيات تندبنا لو كلم الذكر جلموداً لأبكاه
مقياسه في الناس التقوى، وهكذا يجب أن تكون مقاييسنا: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:١٣].
يقول: والله ما رأيت متقياً إلا وددت أني في جلده.
استدعى مزاحماً يوم أن تولى الخلافة فقال: يا مزاحم! لقد رأيتك تُصلِّي الضحى في شِعب من الشعاب لا يراك فيه إلا الله فأحببتك والله، فكن عوني على نفسي، إذا رأيتني ظلمت فخذ بتلابيبي وقل: اتق الله يا بن عبد العزيز.
كان يحب العفو ويحب الإحسان، نال رجل منه ذات يوم، فقيل له: رد على هذا السفيه، فقال: إنَّ التَّقِي مُلْجَمٌ، إنَّ التَّقِي مُلْجَمٌ.
والصمت عن جاهلٍ أو أحمق شرفٌ وفيه أيضاً لِصَْوِن العِرْضِ إصلاح
أما ترى الأُسْدَ تُخْشَى وهي صامتة والكلب يُخزى لعمر الله نبَّاح
كان-رضي الله عنه- لا يرضى مظلمة.
دخل بعضهم يبايعه فقبض يده، فقال: لِمَ أيها الأمير؟
قال: اُغْرُبْ عني، تَجْلِدُ فلاناً سبعين جلدة؛ لأنه آذى ابنك؟! ما غضبت لله، وإنما غضبت لنفسك ولابنك، والله لن تلي لي عملا أبداً بعد اليوم.
قطع أُعْطيَات بني أمية وصلاتهم؛ فغضبوا وأرسلوا له ابنه عبد الملك فقال لابنه: قل لهم: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام:١٥].
أَلْجم عمر نفسه بهذا اللجام، فهلا أَلْجمنا أنفسنا بلجام: {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام:١٥]؟
وَلَّى العُبَاد والزُّهاد واختارهم فقامت الدنيا، يقول ميمون بن مهران: لقد أخبرنا رعاة الأغنام أن الذئب في خلافة عمر ما كان يَعْدُو على الأغنام.
فيا لله! حتى البهائم تسعد في ظل العدل وتأمن؟! لما تُوفِي عمر عَدَتْ الذئاب على الأغنام، فعرف البوادي أنه مات رجل عادل، فالعدل أمن وسكينة وطمأنينة وبالعدل قامت الدنيا.
كان شديد المحاسبة لنفسه وَرِعاً تقياً، كان يقسم تفاحاً أفاءه الله على المسلمين، فتناول ابن له صغير تفاحة، فأخذها من فمه، وأوجع فمه؛ فبكى الطفل الصغير، وذهب لأمه فاطمة، فأرسلت من اشترى له تفاحاً، وعاد إلى البيت وليس معه تفاحة واحدة، فقال لـ فاطمة: هل في البيت تفاح؟ إني أَشُمُ الرائحة، قالت: لا، وقصت عليه القصة -قصة ابنه- فَذَرفت عيناه الدموع وقال: والله لقد انتزعتها من فم ابني وكأنما أنتزعها من قلبي، لكني كرهت أن أضيع نفسي بتفاحة من فيْء المسلمين قبل أن يُقَسَّم الفَيءُ.
فيا لله! وربِّ عمر إن مشهداً كهذا خير من الدنيا وما فيها من زخرف ومتاع.
{وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:٣٥].
كان متواضعًا لله، مدحه رجل في وجهه فقال: يا هذا! أما إنك لو عرفت من نفسي ما أعرف منها ما نظرت إلى وجهي، ورحم الله امرأً عرف قدر نفسه.