وينطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر إلى غار ثور، وفي حديث الهجرة صور أي صور، وعبر أي عبر، حقيقة بالتأمل والوقفات عندها، فهذا الشيخ الجليل أبو بكر قد خرج بكل ما يملك بعد أن أعلن حالات الطوارئ في بيته، واستنفر جميع أفراد أسرته لخدمة الرسالة، وجهز جميع إمكاناته لخدمة المصطفى صلى الله عليه وسلم ثم يمضي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، تاركاً الأهل والعشيرة والأولاد والخلان والأصحاب يريد وجه الله والدار الآخرة.
ويلقي رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر نظرة على البيت الحرام، نظرة حزن قائلاً كما روى الإمام أحمد والترمذي وصححاه:{والله إنك لأحب أرض الله إلي، وإنك لأحب أرض الله إلى الله، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت} دموعه صلى الله عليه وسلم تهراق على وجنتيه، لكنه يعلن للدين إلى قيام الساعة، أن وطن الداعية حيث مصلحة دعوته، فلتهجر الأوطان حتى ولو كانت أحب الأوطان إلى الله وإلى رسول الله، ما دامت تتعارض مع مصلحة الدعوة إلى الله.
وفي الطريق إلى الغار -كما في الدلائل للبيهقي -: يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبي بكر عجبه، يسير أمامه مرة وخلفه مرة، وعن يمينه مرة وعن شماله مرة، فيسأله النبي صلى الله عليه وسلم لم هذا الفعل؟ فيقول: يا رسول الله أذكر الطلب فأمشي خلفك، وأتذكر الرصد فأمشي أمامك، وعن يمينك وعن شمالك لا آمن عليك، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم:{يا أبا بكر! لو كان شيء لأحببت أن يكون بك دوني؟ قال: نعم والذي بعثك بالحق، إن قتلت أنا فإنما أنا رجل واحد، وإن قتلت أنت هلكت الأمة كلها} وضوح في الرؤية وفهم وذكاء وتلك سمات المؤمن.
ويصلان إلى الغار، وينزل الصديق الغار قبل رسول الله صلى عليه وسلم يستبرئه، إن كان به أذى وقع عليه دون المصطفى صلى الله عليه وسلم، ثم ينزل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتوسد وينام قرير العين وهو الطريد الشريد؛ لأنه واثق بنصر الله سبحانه وتعالى، وهنا تبدأ أسرة أبي بكر بأعظم دور تقوم به أسرة في التاريخ، فها هي أسماء وعائشة، شابة وطفلة في بيت أبي بكر تقومان بما يعجز عنه من حملن أعلى الشهادات من نساء المسلمين اليوم، لماذا؟ لأنهما حملتا أعظم شهادة وهي شهادة أن لا إله إلا الله، فتربين عليها وتربين بها.