[الحث على التفكر في آيات الله في الكون]
الْحَمْدُ للهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآَخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ يَعْلَمُ مَا يَلْجُ فِي الأرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ، وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ، عَالِمِ الْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ.
الحمد لله، أصبحت له الوجوه ذليلة عَانِيَة، وحَذِرتَه النُّفوس مجدّة ومتوانية، ذمَّ الدنيا إذ هي حقيرة فانية، وشوَّق لجنة قطوفها دانية، وخوَّف صرعى الهوى أن يُسقوا من عينٍ آنية.
أحمده على تقويم شانيه، وأستعينه وأستعيذه من شر كل شان وشانية، وأحصِّن بتحقيق التوحيد إيمانيه، أحمده وهو العليم العالم بالسِّر والعلانية، فالسر عنده علانية.
فهو العليم أحاط علماً بالذي في الكون من سر ومن إعلان
وهو العليم بما يوسوس عبده في نفسه من غير نطق لسان
بل يستوي في علمه الداني مع الـ ـقاصي وذو الإصرار والإعلان
فهو العليم بما يكون غداً وما قد كان والمعلوم في ذا الآن
وبكل شي لم يكن لو كان كيف يكون موجوداً لذي الأعيان
فهو السميع يرى ويسمع كل ما في الكون من سرٍ ومن إعلان
فلكل صوت منه سمع حاضر فالسر والإعلان مستويان
والسمع منه واسع الأصوات لا يخفى عليه بعيدها والدَّاني
ويري دبيب النمل في غسق الدُّجى ويرى كذاك تقلُّب الأجفان
لهو البصير يرى دبيب النملة السوداء تحت الصَّخر والصَّوَّان
ويرى مجاري القوت في أعضائها ويرى نِيَاطَ عروقها بعيان
ويرى خيانات العيون بِلَحْظِها إي والذي برأ الورى وبَرَانِي
فهو الحميد بكل حمدٍ واقع أو كان مفروضاً على الأزمان
هو أهله سبحانه وبحمده كل المحامد وصف ذي الإحسان
فلك المحامد والمدائح كلها بخواطري وجوارحي ولساني
ولك المحامد ربنا حمًدا كما يرضيك لا يفنى على الأزمان
ملء السماوات العلى والأرض والموجود بعد ومنتهى الإمكان
مما تشاء وراء ذلك كله حمداً بغير نهاية بزمان
وعلى رسولك أفضل الصلوات والتسليم منك وأكمل الرضوان
صلى الإله على النبي محمد ما ناح قُمْرِيٌ على الأغصان
وعلى جميع بناته ونسائه وعلى جميع الصَّحب والإخوان
وعلى صحابته جميعاً والأُلَى تبعوهم من بعد بالإحسان
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران:١٠٢]
أما بعد:
أحبتي في الله: إنها دعوة؛ دعوة إلى التأمل، دعوة موجَّهة إلى القلوب الذاكرة العابدة الخاشعة، دعوة إلى من يتفكرون، ويسمعون، ويعقلون، ويؤمنون، ويفقهون إلى أولي الألباب إلى أولي الأبصار إلى أولي الأحلام والنُّهَى إلى من يتأملون، ويتدبرون فينتفعون، فلا عند حدود النظر المشهود للعيان يقفون، بل إلى قدرة القادر في خلقه ينظرون، ولسان حالهم ومقالهم: {لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآَخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإليه تُرْجَعُونَ} [القصص:٧٠] ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم وكذلك يفعلون.
وهي كذلك دعوة إلى الغافلين، السَّاهين، اللاهين، المعْرِضين، إلى من لهم عيون بها لا يبصرون، وآذان بها لا يسمعون، وقلوب بها لا يفقهون.
إلى من هم كالأنعام يأكلون ويشربون ويتمتعون ولم يحققوا معنى: {إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:٥٦].
إلى من هاجموا التوحيد ولم يفهموه، وهاجموا الإسلام ولم يعرفوه، ونقدوا القرآن ولم يقرءوه.
إلى من يمرُّون على آيات الله وهم عنها معرضون، إليهم هذه الدعوة؛ علَّهم يستيقظون، ويفقهون، ويعقلون، فيقدرون الله حقَّ قدره، لا إله إلا هو فأنى يؤفكون: {ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [الزمر:٦].
إنها باختصار دعوة إلى العلم بالله علماً يقود إلى خشيته ومحبته، فمن كان به أعلم كان له أخشى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:٢٨] وهي أيضاً دعوى إلى تعبد الله بمقتضى ذلك العلم، في تمام خضوع وذل ومحبة من طريقين اثنين:
الأول: التدبر في آيات الله الشرعية المتلوة في كتابه العزيز.
والثاني: النظر في مخلوقات الله، وآياته الكونية المشهودة: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْل وَالنَّهَارِ لآَيَاتٍ لأُولِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:١٩٠ - ١٩١].
هي دعوة إلى التأمل في بديع صنع الله، وخلقه وبيان ما في هذا الكون من إبداع ينطق بعظمة الخالق جل وعلا، ووحدانيته في ربوبيَّته، وألوهيته وأسمائه وصفاته.
كيف والكون كتاب مفتوح يُقرأ بكل لغة، ويُدرك بكل وسيلة، يطالعه ساكن الخيمة، وساكن الكوخ، وساكن العمارة والقصر، كل يطالعه فيجد فيه زاداً من الحق إن أراد التطلع إلى الحق.
إنه كتاب قائم مفتوح في كل زمان ومكان، تبصرة وذكرى لكل عبدٍ خضع وأناب.
يأخذك كتاب الله إن تأمَّلته في جولات وجولات، ترتاد آفاق السماء، وتجول في جنبات الأرض والأحياء، يقف بك عند زهرات الحقول، ويصعد بك إلى مدارات الكواكب والنجوم.
يفتح بصرك وبصيرتك إلى غاية إحكام وإتقان ليس له مثيل، قد وضع كل شيء في موضع مناسب، وخُلِق بمقدار مناسب.
يُرِيك عظمة الله، وقدرة الله، وتقديره في المخلوقات، ثم يكشف لك أسرار الخلق والتكوين، ويهديك إلى الحكمة من الخلق والتصوير، ثم يقرع الفؤاد بقوله: {أَإِلَهٌ مَّعَ اللهِ تَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل:٦٣].
إن نظرت إليه بعين البصيرة طالعك بوحدانية الله في الربوبية مستدلاً بها على وحدانيته في العبادة والألوهية، ذلَّت لعزة وجهه الثَّقلان.
وفي نهاية الآيات، يقرع القلوب، ويطرق الآذان، ويصكُّ المشاعر والأحاسيس بذلك التعقيب الإلهي العظيم: (لعلهم يذكَّرون) (لعلهم يتفكرون) (لعلهم يتَّقون) (لعلهم يرجعون) كل هذا، وهناك من هم عنه معرضون: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ} [الفرقان:٤٤].
إنه حديث طويل، يطالعك في طوال السور وقصارها، لكنه مع ذلك شائق جميل، تسكن له النفس، ويتلذَّذ به السمع، وتتحرك له الأحاسيس والمشاعر، تستجيب له الفِطَر السليمة المستقيمة، ومع ذا ينبِّه الغافل، ويدمغ المجادل المكابر؛ إذ هو حق، والحق يسطع ويقطع.
والحق شمس والعيون نواظر لا يختفي إلا على العميان
والشرع والقرآن أكبر عُدَّة فهما لقطع لجاجهم سيفان