[الإمام أحمد ومحنة خلق القرآن]
ألم يأتك نبأ الإمام أحمد رحمه الله يوم امتحن على القول بخلق القرآن، فثبت على الحق ثبوت الجبال، حتى أنه كان إذا أريد على ذلك تدور حماليق عينيه كالمجنون.
يؤتى بالسياط للمعتصم وبجلادين غلاظ القلوب قساة الأفئدة، ليأمر كل واحد منهم أن يتقدم ليضرب الإمام بكل ما لديه من قوة سوطين وكفى، والمعتصم يقول للضارب: شد قطع الله يدك.
ثم يقول المعتصم: يا أحمد! علام تقتل نفسك، إني والله عليك لشفيق.
ويقول آخر: أتريد أن تغلب هؤلاء كلهم.
ويقول بعض بطانته الخبيثة -التي هي أخبث من بطانة فرعون- يا أمير المؤمنين! اقتله ودمه في عنقي.
فيقول المعتصم: ويحك يا أحمد! ما تقول؟
فيقول: أعطوني شيئاً من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أقل به؛ ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً، فيغضب ثم يقول للجلاد: تقدم، أوجعه قطع الله يدك.
فيضرب الإمام والمعتصم يقول: أجبني ويحك إلى شيء لك فيه أدنى فرج حتى أطلق عنك بيدي.
فيقول: أعطوني شيئاً من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أقل به.
فيأمر الجميع بضربه ويقول: شدوا قطع الله أيديكم، حتى ذهب عقل الإمام، وأغمى عليه؛ داسوه بالأقدام، كبوه على وجهه، طرحوه على ظهره، ثم يفيق ودماؤه تسيل؛ خلعت أكتافه وهو ثابت كالطود الأشم.
هنا ينتقلون إلى أسلوب المناظرة فيتقدم أحدهم يناظر ويقول: أولست تحسن كتاب الله يا أحمد! إن الله يقول: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً} [النبأ:٦] أي: نخلقها مهاداً ويقول: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} [الزخرف:٣] أي: خلقناه قرآناً عربياً، فقال الإمام أحمد في هدوء المؤمن؛ والله تعالى يقول: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:٥] أهي: بمعنى خلقهم كعصف مأكول؟ فألجم وسكت.
وتقدم آخر فقال: الله يقول {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر:٦٢] أو ليس القرآن شيئاً، فقال الإمام والله يقول: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف:٢٥] فهل دمرت كل شيء أم دمرت ما أراد ربها؟ فبهت وسكت؛ ولا غرو:
من ذا يساوي بين تغريد البلابل والنعيق.
يقول أحدهم مغضباً: وأنت لا تقول إلا كتاب سنة كتاب سنة، فكان حال الإمام ينطق: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الزخرف:٤٣].
لسنا وإن عزبت أحلامنا وخوت منا الرءوس بقول الزور ننبهر
وثبت الإمام أحمد عليه رحمة الله، ونصر الله به السنة، وكان بحق إمام هذه الأمة في علمه وثباته وتواضعه؛ يقول أحدهم له: جزاك الله خيراً عن الإسلام يا إمام، فيقول: بل جزى الله الإسلام عني خيراً؛ من أنا وما أنا؟ رحمه الله من قدوة ماثلة إلى الآن.
قاد الهوى الفجار فانقادوا له وأبت عليه مقادة الأبرار
وبالعهد نفسه يراد أبو يعقوب البويطي على القول بخلق القرآن، فيمتنع، فيحبس في بغداد حتى مات في الحبس، يقول قبل موته: والذي لا إله إلا هو! لأموتن في حديدي هذا حتى يأتي من بعدي قوم يعلمون أنه قد مات في هذا الشأن قوم في حديدهم: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا} [العنكبوت:٢]
ومن لاذ بالله في دربه كفاه المهيمن من كل شر
سيد رحمه الله يحكم عليه بالإعدام وتأتي أخته فتقول: اعتذر لعله يخفف عنك.
قال: أأعتذر عن العمل مع الله؟ والله! لو كان التعامل مع غير الله لاعتذرت ولكنه مع الله حاله:
إن بقي شيء في الأجل فلن يقدم؛ وإن لم يبق شيء فلن يؤخر.
إني وزنت الذي يبقى ليعدله ما ليس يبقى فلا والله ما اتزنا
أخي سالك طريق اليمن: ربِّ نفسك، وليزمجر بحرك:
الله غايتنا وهل من غاية أسمى وأغلى من رضا الرحمن
أعدها للبيع على الله عز وجل؛ فإنه يوشك من أهمل نفسه أن ينهزم قلبه، وتخونه نفسه عند أول اختبار وبادرة هزة، فيتراءى لك أنه حي يرزق، ولكنه في الحقيقة ميت.
غمد محلى بلا سيف، وجدول غير ثابت.
إن طريق العقيدة الصحيحة والدعوة إليها طريق الأنبياء؛ شاق تتقاصر دونه الهمم الساقطة، والعزائم الضعيفة، وتجزع دونه الأرواح الهزيلة والقلوب الخاوية:
طريق الحق محفوف بشوك ومحتاج إلى طول المراس
إن العقيدة -والله- لا تحتاجنا، بيد أنا نحتاجها لنتذوق طعم الحياة بها، فاسلك طريق الإيمان وتدبر القرآن، وتعرف في الرخاء على الرحمن، واستيقن أن الرزق مضمون والأجل محدود، وقف على أخبار من ثبت؛ تطمئن وتسكن؛ فإذا حصل اطمئنانك إلى أن ما تفعله حق وأنه لله واستعنت بالله؛ فليكن حداؤك ودعاؤك: يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك.
ثم اسلك طريق اليمن قاصداً البحر، ولا تلتفت لطريق الشام وخل القنوات!