[أحوال الناس مع التوحيد]
أما غاد فيغدو من بيته ليهلك نفسه، وليوبق نفسه؛ بالإشراك بالله -الذي لا إله إلا هو، إن تكلم فلا تسمع إلا ألفاظ الشرك تفوح من فمه، وألفاظ الشرك ما أكثرها، متعددة بين الخلق الآن وهم يشهدون أن لا إله إلا الله، يخرج الرجل من بيته، وفي أدنى المواقف لا تسمعه إلا يستعين بغير الله جل وعلا: خذوه واعملوا به وافعلوا به وفي صلاته يردد بعد ذلك: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:٥] أين الاستعانة التي قصرتها على الله جل وعلا أتقولها في المسجد، فتخرج من المسجد فتخالف هذه الكلمة، فتوبق نفسك وتهلك نفسك؟ اتق الله يا عبد الله في هذه الألفاظ، وإياك أن تكررها فإنها شرك: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة:٧٢] {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:٣١] فاعصم لسانك من هذه الكلمة، فإن زللت ووقعت منك فعد إلى الله، وقل بعدها: لا إله إلا الله.
إن أصيب أحدهم بمصيبة، بمرض في نفسه، أو أهل بيته، أو في أبنائه، لم يعد إلى الله عز وجل لم يعد إلى من يشفي، لم يعد إلى من بيده الشفاء، وإنما يذهب إلى السحرة، والكهنة، والمشعوذين، فيبيع دينه ودنياه، ناسيًا قول النبي صلى الله عليه وسلم: {من أتى كاهنا أو عرَّافاً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم}.
يغدو الغادي من هؤلاء فيحلف بكل شئ إلا بالله، يحلف بالطلاق، يحلف بالحياة، يحلف بالأمانة، يحلف بالذمة، يحلف بالحرام، لكنه لا يحلف بالله الذي لا إله إلا هو، لا يحلف بالله العظيم الذي يستحق أن يعظم، والحلف يقتضي تعظيم المحلوف به، ناسياً أو متناسياً قول مصطفاه صلى الله عليه وسلم يوم يقول: {من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك} {من حُلِف له بالله فليرض، ومن لم يرضَ فليس من الله} {من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت}، وإذا حلف لك بالله -يا عبد الله- فإياك أن توبق نفسك، وارض بهذه اليمين، وكِلْ السرائر إلى الله جل وعلا.
هاهو كما في البخاري: إسرائيلي يحتاج إلى دنانير، فيذهب إلى آخر فيطلب منه قرض مائة دينار، فيقول له: هل لك من كفيل؟ قال: والله ما لي من كفيل إلا الله، قال: كفى بالله كفيلاً، فهل لك من شاهد؟ قال: ما لي من شهيد إلا الله، قال: كفى بالله شهيداً.
فدفع له المائة دينار، وأخذها وواعده على أن يفي بهذا الوعد، وأن يرد له هذه القرضة في يوم معين، وعبر البحر إلى الشاطئ الآخر، وذهب إلى أهله وجمع هذه المائة دينار، وجاء ليرجع بها ليوصلها إلى من أقرضه إياها، ورضي بالله كفيلاً وشهيداً، جاء إلى ساحل البحر فلم يجد سفينة توصله إلى هناك، فبقي اليوم الأول، ثم اليوم الثاني، ثم في اليوم الثالث أخذ خشبة؛ عوداً من حطب، وحفر فيه حفرة، ثم أخذ المائة الدينار وأدخلها فيه، وذاك ينتظر على الشاطئ الآخر ثلاثة أيام، يريد أن تعاد له قرضته، ويقول: حسبي الله ونعم الوكيل.
ظن أنه خانه، ظن أنه غدر به، وما كان من هذا إلا أن أخذ الدراهم والدنانير ووضعها في الخشبة، ثم قال: يا رب؛ اللهم إني استقرضته فأقرضني، فلم أجد كفيلاً إلا أنت فرضي بك، ولم أجد شهيداً إلا أنت فرضي بك، اللهم فبلغه هذه الدنانير، ثم رمى بالخشبة في البحر.
ويرسل الله الريح، وتأخذ الخشبة إلى الشاطئ الثاني، ويقابلها هذا هناك وهو ينتظر السفينة فلم يجد، قال: أعود بهذا العود حطباً لأهلي خير من أن أعود بلا شيء، فأخذ هذا العود، وهو لا يعلم ما بداخله، وذهب به إلى أهله يريد أن يجعله حطباً، وجاء ليكسر العود وإذ بالمائة دينار في وسطه، فقال: لا إله إلا الله، من رضي بالله كفاه الله، من توكل على الله كفاه الله.
فهل رضينا بالله؟!
غادٍ يغدو ويُحْلف له بالله فلا يرضى بالله، ويحلف له بغير الله فيرضى بذلك: {وكل يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها}.
وذاك غاد آخر يغدو لإعتاق نفسه، إن تكلم فبذكر الله، وإن استعان فبالله القادر، وإن سأل فبالله المعطي.
لا تسألنَّ بُنَيَّ آدمَ حاجةً وسل الذي أبوابه لا تحجبُ
الله يغضب إن تركت سؤالَه وبُنَي آدمَ حين يُسْألُ يغضبُ
إن أصيب بأمر من الأمور بمرض من الأمراض بمصيبة، لجأ إلى الله الذي يجبر كسر المصابين، ثم طلب الأسباب الشرعية، لا الأسباب الشركية، إن حلف فبالله، وإن حُلِفَ له بالله رضي، فهو غاد في حفظ الله، وعائد في عناية الله، وكل يغدو، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها.