[حقيقة النعيم عند أبي عبيدة بن الجراح]
روى البخاري ومسلم رحمهما الله من حديث جابر رضي الله عنه وأرضاه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمَّر علينا أبا عبيدة نتلقى عيراً لقريش، وإلى حيٍ من قبيلة جهينة -كما في بعض الروايات- وزودنا جراباً من تمرٍ لم يجد لنا غيره.
تموين السرية وهم ثلاثمائة جراب تمرٍ فحسب.
كان أبو عبيدة يعطينا تمرة تمرة.
حزمٌ وحسن قيادة وإدارة، إذ لو تركهم وشأنهم لفني زادهم في وقتٍ قليل، ثم تعرضوا للهلاك.
فقيل: كيف تصنعون بتمرة؟ قالوا: نمصها كما يمص الصبي، ثم نشرب عليها من الماء فتكفينا يومنا إلى الليل
صبٌر عظيمٌ على الجوع إلى حد الاكتفاء بتمرة واحدة يوماً وليلة.
يقول أحدهم: وما تغني تمرة؟ قال: قد وجدنا فقدها حين فنيت
ثم فقدوا الأكل كله حتى التمر، فصاروا يعيشون على أوراق الشجر، وأي شجر؟ إنه السمر إنه الخبط خشن شديد لا يكاد يبلع، قال: فكنا نضرب بعصينا الخبط، ثم نبله بالماء فنأكله حتى قرحت أفواهنا، فسميت السرية بسرية الخبط، قال: وانطلقنا على ساحل البحر
لا يجدون تمراً، ولا شجراً ولا شيئاً، قد نفد زادهم، واشتد جوعهم، فهل فكروا في العودة إلى المدينة قبل أداء مهمتهم يا معاشر المؤمنين؟
هل تضجروا وسخطوا على قائدهم إذ لم يزودهم سوى جراب تمر؟
كلا والله، إنهم رجالٌ أعدوا إعداداً تربوياً لتحمل الشدائد التي يطيقها البشر ولو بمشقة عظمى، أيقنوا وآمنوا بقول الله عز وجل: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [التوبة:١٢٠ - ١٢١].
وبينما هم على ساحل البحر إذ رفع لهم كهيئة الكثيب الضخم، قال: فأتيناه فإذا هو دابة تدعى العنبر، قال أبو عبيدة: ميته؟ لا، بل نحن رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي سبيل الله، وقد اضطررتم فكلوا، قال: فأقمنا عليه شهراً ونحن ثلاثمائة حتى سمنا، ولقد رأيتنا نغترف من وقب عينه الدهن بالقلال، ونقتطع منه الفدر والقطع كقدر الثور، ثم أخذ منا أبو عبيدة رضي الله عنه ثلاثة عشر رجلاً فأقعدهم في وقب عينه، وأخذ ضلعاً من أضلاعه فأقامها، ثم رحل أعظم بعيرٍ معنا فمر من تحته.
لا إله إلا الله! {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [لقمان:١١] هذا رزق الله: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ} [الملك:٢١].
قال: وتزودنا من لحمه وشائق، ولم نلق كيداً والحمد لله، ثم قدموا المدينة فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكروا ذلك له، فقال صلى الله عليه وسلم: {ذاك رزقٌ أخرجه الله لكم}.
إنها كرامة الله لأوليائه، ثم قال صلى الله عليه وسلم: {هل معكم من لحمه شيء فتطعمونا؟ قلنا: نعم، فأرسلنا إليه منه فأكله صلوات الله وسلامه عليه}.
يا عبد الله! حينما يكون الإيمان قوياً يتضاءل مفعول هموم الدنيا على النفس فتأتي بالعجائب كما سمعت:
من يؤثر الحق يبذل فيه طاقته ومن يكن همه أقصى العلا يصل
لا شيء يقعد آمال النفوس إذا خلت من الضعف واستعصت على الكسل
هذا مجالك فاركض غير متئدِ وإن رأيت المنايا جُوَّلاً فجلِ
والنعيم لا يدرك بالنعيم.