[كيف ندرك النعيم]
معاشر المؤمنين! إن الأمة قبل البعثة كانت عزوفةً عن الفضائل، منغمسةً في الرذائل، فلم يزل بها هذا القرآن والسنة؛ حتى أخرج من رعاة النعم قادة الأمم، ومن خمول الأمية أعلام العلم والحكمة، فإن زعم زاعمٌ في عصرك أن الزمان ليس الزمان، قلنا: لكن الإنسان هو الإنسان، والقرآن لم يزل هو القرآن، هو صالحٌ لكل زمانٍ ومكان.
القمة مرهقة؛ تكلف صاحبها عناء الصعود، وشق الصفوف، وبذل المجهود، وموطأ الأرض تدوسه أقدام الأسود والقرود واليهود، والبحر الواسع الأمواج فيه تلتطم؛ لكنها تنفرج عن حلية الخرد الخود:
وما قدر اللآلئ وهي درٌ إذا لم ينفلق عنها المحار
والنعيم لا يدرك بالنعيم.
الثبات على دين الله نعيم، ولا يدرك بالنعيم العلم نعيم ولا يدرك بالنعيم، تبليغ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخلق نعيم الفضيلة نعيم كبح النفس عن الهوى نعيم الإحسان إلى الخلق نعيم ضبط الجوارح بالوحي نعيم ضبط المكاسب بالوحي نعيم ضبط الولاء والبراء بالوحي نعيم، والنعيم لا يدرك بالنعيم، والنعيم والملك الكبير على الحقيقة ثَمِّ في دار النعيم، والنعيم لا يدرك بالنعيم.
والله لو كان لأحدنا ألف ألف نفس، وألف ألف روح، وألف ألف عمر، فبذل ذلك كله في ذلكم المطلوب العزيز لكان قليلا، ولئن ظفر به من بعد ذلك لكان غنماً عظيماً وفضلاً كبيراً.
والله الذي لا إله إلا هو؛ لو أن رجلاً يجرُّ على وجهه من يوم ولدته أمه إلى يوم يموت هرماً في طاعة الله لحقره يوم القيامة يوم يرى عياناً عظيم نواله وباهر عطائه، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
ما المجد زخرف أقوالٍ لطالبه لا يدرك المجد إلا كل فعال
كلٌ له غرضٌ يسعى ليدركه والحُر يجعل إدراك العلا غرضا
أي شباب الإسلام! خذوها فصيحةً صريحة لا تستتر بحجاب، ولا تتوارى بجلباب، علتنا التي أعيت الأطباء، واستعصت على الحكماء، هي وهن العزائم، وضعف الإرادة والأخلاق، فلنداو الأخلاق بالقرآن تصلح وتستقم، ولنأسُ العزائم بالوحي تقوى وتشتد كما يقول الإبراهيمي:
فاحذها تسرِ فوق السماء يا غر سماوات أخر
وفوق هذا المجد في دنياك مجد ينتظر
يا أيها الجيل! نريدك جيلاً طاهراً تقياً نقياً، إن كان في الحرب فهو في صولته كأسد الشرى، وفي السلم في وداعته على أوليائه كغزال الحمى، يجمع بين حلاوة العسل لأوليائه، ومرارة الحنظل لأعدائه، كما يقول إقبال.
إن تكلم كان رقيقاً رفيقاً، وإن جد في الطلب كان شديداً حثيثاً، وكان مع ذلك عفيفاً نزيهاً آماله ومقاصده جليلة، ومع ذا غني القلب في الفقر فقير الجسم في الغنى غيورٌ في العسر كريمٌ في اليسر يظمأ إن بدا له في الماء مِنَّة، ويموت جوعاً إن رأى في الرزق ذلة.
فإن المال قد يأتي ويمضي وأنت وما ملكت إلى ارتحال
إن قابل في سيره صخوراً وجبالاً كان شلالاً، وإن مر على الحدائق كان عذباً سلسالاً، يجمع بين جلال إيمان الصديق وحزم عمر، وحياء عثمان، وشجاعة وقوة علي، وصدق سلمان، وأمانة أبي عبيدة.
فكن مثل الصحابة أهل دنيا وآخرة وعباد وغزا
كالشمس إذا غربت في جهةٍ أشرقت في أخرى، فهي لا تزال مضيئة طالعة، تغشى البلاد شرقاً وغرباً، موقنٌ أن النعيم لا يدرك بالنعيم.
فشد الرحل أيها الجيل! وقرب المطية، ولا تخش لذع الهواجر ولو كنت في شهري ناجر، ولا يهولنك بعد الشقة، وخيال المشقة، فالنعيم لا يدرك إلا بحظٍ من المشقة.
فانهض بإقدامٍ على الأقدام إن كنت للعلياء ذا مرام
شقوا الزحام إلى العليا واقتحموا أخطارها إنما العليا أخطار
اشقوا لتحيوا حياة العز أو تردوا حوض الردى فالردى يحمى به العار
إذا لم تمض في وقت الحر الشديد، فستضطر إلى المضي في البرد الشديد، فابدأ المسير إلى الله أيها الجيل! والنعيم لا يدرك بالنعيم.
إلهي
إليك وإلا لا تشد الركائب ومنك وإلا فالمؤمل خائب
وفيك وإلا فالكلام مضيع وعنك وإلا فالمحدث كاذب
فيا فالق الإصباح والحب والنوى ويا قاسم الأرزاق بين العوالم
ويا كافل الحيتان في لج بحرها ويا مؤنساً في الأفق وحش البهائم
ويا محصي الأوراق والنبت والحصى ورمل الفلا عداً وقطر الغمائم
إليك توسلنا بك اغفر ذنوبنا وخفف عن العاصين ثقل المظالم
وحبب إلينا الحق واعصم قلوبنا من الزيغ والأهواء يا خير عاصم
ودمر أعادينا بسلطانك الذي أذل وأفنى كل عاتٍ وغاشم
ومنَّ علينا يوم ينكشف الغطاء بستر خطايانا ومحو الجرائم
وصل على خير البرايا نبينا محمدٍ المبعوث صفوة آدم
وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.