[الوقوف على أخبار العلماء]
ثم اعلم -أخي طالب العلم- أن الوقوف على بعض أخبار طلبة العلم والعلماء من خير الوسائل التي تغرس الفضائل في النفوس، وتدفع النفس الضعيفة إلى تحمُّل الشدائد والمكاره في سبيل الغايات النبيلة والمقاصد الجليلة، وتبعث فيها روح التأسي بذوي التضحيات في سبيل العلم لتسمو إلى أعلى الدرجات، في أخبارهم إثارة قوية لمشاعر طالب العلم الذي يسعى جاهداً للوصول إلى المقامات العليَّة في العلوم الشرعية.
- ابن القاسم:
جاء في ترتيب المدارك: أن ابن القاسم عليه رحمة الله تزوج ابنة عمه، وحملت منه، وقد كان شغوفاً بطلب العلم، فقرر أن يرتحل لطلب العلم، وخيَّرها عند سفره بين البقاء أو الطلاق، فاختارت البقاء معه، فسافر حتى أتى المدينة، وترك زوجه حاملاً في بلاده، فاسمع ما يقول.
يقول: كنت آتي كل يوم الإمام مالك عليه رحمة الله في ظلمة الليل -في آخر الليل- في غلس، فأسأله عن مسألتيْن أو ثلاث أو أربع، وكنت أجد منه في ذلك الوقت انشراحاً للصدر، فكنت أستغل ذلك الانشراح، فآتيه كل سحر، قال: فجئت يوماً، فتوسدت مرة عتبة بابه، فغلبتني عيناي، فنِمْتُ، وخرج الإمام مالك إلى المسجد، ولم أشعر به.
قال: فخرجت جارية سوداء له، فركضتني برجلها، وقالت: إن الإمام قد خرج إلى المسجد، ليس يغفل كما تغفل أنت، إن له اليوم تسعاً وأربعين سنة قلَّما صلى الصبح إلا بوضوء العتمة، يصلي الصبح بوضوء العشاء لمدة تسع وأربعين سنة!
يقول ابن القاسم: فأنخت بباب مالك سبع عشرة سنة أطلب العلم، والله ما بعت فيها ولا اشتريت شيئاً، وإنما أطلب العلم.
قال: وبينما أنا عنده إذ أقبل حجاج مصر -بلده- فإذا شاب ملثم دخل علينا، فسلم على مالك، وقال: أفيكم ابن القاسم؟ فأشير إليَّ، قال: فأقبل علي يقبل عيني ويدي ووجدت منه ريحاً طيبة؛ فإذا هي رائحة الولد، وإذا هو ابني الذي ذهبت، وهو في بطن أمه قد أصبح شاباً يافعاً فيالله! تركوا كل شيء، وأعطوْا العلم كل شيء، ففتح الله عليهم فتحاً لا يخطر بالبال، ولا يدور بالخيال.
لا نقول: أعطُوا ما أعطَوْا؛ فنحن أقلُّ والله.
لكن نقول: لنعطِ العلم بعض شيء علَّنا نكون شيئاً، نسأل الله أن ييسر لنا العلم النافع والعمل الصالح، هو ولي ذلك والقادر عليه.
- أبو الحسن الفالي:
حكى الخطيب التبريزي اللغوي: أن أبا حسن الفالي الأديب كانت له نسخة من كتاب الجمهرة لـ ابن دريد وكانت في غاية الجودة، فدعته الحاجة ذات يوم لبيعها، فكتب أبياتاً في آخرها يعبر عن معاناته في بيع أعز ما لديه وهو الكتاب، لكنها الحاجة -ونسأل الله أن يغنينا عمن أغناه عنا- عرضها للبيع فاشتراها منه ابن القاسم -المذكور قبل قليل- بستين ديناراً، ثم قام بتصفحها، فوجد فيها تلك الأبيات بخط بائعها يقول فيها:
أنست بها عشرين حولاً وبعتها لقد طال وجدي بعدها وحنيني
وما كان ظني أنني سأبيعها ولو خلدتني في السجون ديوني
ولكن لضعف وافتقار وصبية صغار عليهم تستهلُّ شجوني
فقلت ولم أملك سوابق عبرتي مقالة مكويِّ الفؤاد حزين
وقد تخرج الحاجات يا أم مالك كرائم من ربٍّ بِهن ضنين
فقرأها وتأثر ابن القاسم، وفاضت عيناه، وذهب وأرجع النسخة له، وترك له الدنانير، فرحم الله الجميع.
- البخاري:-
وفي البداية يقول ابن كثير: لقد كان البخاري يستيقظ في الليلة الواحدة من نومه فيوقد السراج، ثم يكتب الفائدة تمر بخاطره، ثم يطفئ السراج لينام، ثم يقوم أخرى وأخرى، وكان يتعدد ذلك منه في الليلة الواحدة أكثر من عشرين مرة.
بل إن الإمام الشافعي تذكر عنه ابنته وتقول: إنه في ليلة واحدة أطفأ وأضاء السراج ستين مرة.
فما الذي نَامَهُ هؤلاء من ليلهم، رحمهم الله؟ قد كانت الشدائد في سبيل تحصيل العلم عندهم أشهى وألذَّ وأحلى من جنى النحل في الفم؛ لأنهم يعرفون قدر ما يأخذون.
يقول عمرو بن حفص الأشقر: إنهم فقدوا البخاري عليه رحمة الله صاحب الصحيح -نسأل الله أن يرحمه وأن يجعل كتابه في موازين حسناته يوم يلقى الله- فقدوه أياماً من كتابة الحديث، وقد كان من أحرص الناس على كتابة الحديث، قال: فطلبناه نتلمسه، فوجدناه في بيته وهو عريان لا يملك حتى ثوباً يلبسه، قال: وقد نفد كل ما لديه، ولم يبقَ معه شيء، ولم يستطع الخروج؛ لأنه عريان.
قال: فاجتمعنا، وجمعنا له الدراهم حتى اشترينا له ثوباً وكسوناه.
قال: ثم اندفع معنا في كتابة الحديث.
فماذا يقول من يملك عشرات الثياب؟ ماذا يقول من يملك عشرات الأقلام والأوراق ثم ينام عن حلقة علم يذهب لها لا على قدميْه بل بسيارته في مكان مُكيَّف مُعدٍّ مُهيَّأ لذلك؟ لا نامت أعين الكسالى.
لا نامت أعين البطالين.
كلنا نلهج بالعلم، ولا أحد منا يباري العلماء.
وهاهو أبو يوسف تلميذ أبي حنيفة -عليهما رحمة الله- يموت ابنه ويجهزه ويصلي عليه مع المصلين، ثم يوكِّل أناساً يدفنونه، ويذهب لحلقة إمامه، وهو يقول: ذهب الابن، وأحتسبه عند الله، وأخشى أن تفوتني مسألة لا تذهب حسرتها من قلبي حتى أموت.
يا خاطب العلياء إن صداقها صعب المنال على قصير الباع
أما المنذري: فيقول أحد تلاميذه: جاورته ثنتيْ عشرة سنة -بيتي فوق بيته- ما قمت في ساعة من ليل إلا وسراجه مُضاء يكتب أو يصلي.
وهذا خبر أخير من أعجب الأخبار وأغربها: وقع لعالم أندلسي ممن رحلوا من الأندلس إلى المشرق، رحل هذا العالم إلى المشرق على قدميْه ليلقى إماماً من أئمته ليأخذ عنه العلم، ولكنه حين وصل إليه وجده محبوساً ممنوعاً من الناس، فتلطف وتحيَّل حتى لقيه، فأخذ العلم عنه بصورة لا تخطر على البال، ولا تدور بالخيال.
- بقي بن مخلد:-
جاء في السير للذهبي أن بَقي بن مَخْلَد الأندلسي كان جُلُّ بغيته ملاقاة الإمام أحمد والأخذ عنه، فخرج من الأندلس على قدميْه ماشياً.
يقول: فلما قربت من بغداد وصلني خبر المحنة التي دارت على الإمام أحمد، وعلمت أنه ممنوع الاجتماع إليه والسماع عنه.
قال: فاغتممت لذلك غمّاً شديداً فلم أعرج على شيء؛ بل أنزلت متاعي في بيت اكتريته، ثم أتيت الجامع الكبير، وحضرت بعض الحِلَق، قال: ثم خرجت أستدل على منزل الإمام أحمد، قال: فدُللت عليه، فقرعت بابه، فخرج إليَّ، وفتح الباب، فنظر إلى رجل لم يعرفه، فقلت: يا أبا عبد الله رجل غريب الدار، وهذا أول دخولي البلد، وأنا طالب حديث وجامع سنة، ولم تكن -والله الذي لا إله إلا هو- رحلتي إلا إليك يا إمام.
فقال: ادخل الممر، ولا تقع عليك عين، فدخلت الممر، وجاء لي، فقال: من أين؟ قلت: من المغرب الأقصى من الأندلس، فقال: إن موضعك لبعيد، وما كان من شيء أحب إلي من أن أحسن عون مثلك على مطلبه، غير أني في حيني هذا ممتحن بما لعله قد بلغك، فقلت له: بلى قد بلغني، وأنا قريب من بلدك بعد أن قطعت ما قطعت مقبلاً نحوك، لكن يا أبا عبد الله! هذا أول دخولي البلد، وأنا مجهول عندكم؛ فإذا أذنت لي أن آتيك في زِيِّ سائل، فأقول ما يقول السائلون المتسولون: الأجر رحمكم الله، فتخرج إلى هذا الممر؛ فلو لم تحدثني في كل يوم إلا بحديث لكان لي فيه خير عظيم.
فقال الإمام أحمد: نعم على شرط ألا تظهر في الحِلَق عند أصحاب الحديث.
فكنت آخذ عوداً بيدي وأَلُفُّ رأسي بخرقة، وأجعل ورقتي ودواتي في كُمِّي، ثم آتي بابه، فأصيح: الأجر رحمكم الله، الأجر رحمكم الله.
قال: فيخرج إليَّ في الممر ويغلق باب الدار، ثم يحدثني بالحديثين والثلاثة حتى اجتمع لي نحو ثلاثمائة حديث.
قال: والْتزمتُ تلك الطريقة حتى زالت المحنة عن الإمام أحمد؛ يوم مات المبتدع، وتولى من كان على السنة.
قال: فظهر الإمام، وسما ذكره، وعظم في عيون الناس، وكانت تضرب إليه آباط الإبل، فكنت أحضر له، فيعرف لي حق صبري، ويعرف لي حق تجلدي في طلب العلم؛ فإذا رآني هشَّ وبشَّ، وقال: تعالَ إليَّ، وأفسح لي في مجلسه، وأدناني من نفسه، ثم يقول لطلبة الحديث: هذا هو الذي يستحق أن يطلق عليه اسم طالب العلم، ثم يقص عليهم قصتي.
قال: ثم مرضت يوماً من الأيام، فزارني الإمام أحمد؛ فما بقي أحد بعد ذلك إلا زارني، وأَجلَّني الناس لزيارته وخدموني؛ فواحد يأتيني بفراش، وآخر يأتيني بلحاف، وآخر يأتيني بأطايب الأغذية، وكانوا في تمريضي -والله- أكثر من تمريض أهلي لو كنت بين أظهرهم؛ فرحم الله الجميع، وجزاهم الله عن العلم وأهله خيراً.
هذه بعض أخبارهم في رحلاتهم في طلب العلم، في نَصَبِهم، في تعبهم، في هجر النوم، في الصبر على شظف العيش، في مرارة الفقر والجوع والعطش في الهواجر الأيام والساعات، في نفاد أموالهم ونفقاتهم في الغربة، في فقد كتبهم ومصابهم في بيعها؛ لأنها من أعز ما يملكون.