[من وسائل كشف الكربة: لطيف التعزية]
فمن تأمل هذه اللطائف زال ما به، وانشرح صدره، وانفرج همُّه بإذن ربه.
ومما يكشف الكربة عند فقد الأحبة: لطيف التعزية عند فقد الأعزة؛ فإن الكلمة الطيبة للمصاب يُثبَّت بها -بإذن الله- ويعان، ويغدو الصبر عليه سهلاً يسيراً؛ فإن المؤمن -كما تعلمون- قليل بنفسه كثير بإخوانه، ضعيف بنفسه قوي بإخوانه، شديد بأعوانه؛ فإذا وجد هذا يُعزِّيه، وهذا يُسليه سهلت عليه الأمور العظام، وكُشِفَ ما به بإذن الله رب الأرض والسماء.
ولذا فإن الشارع -بحكمته البالغة- شرع لنا التعزية لأهل المصيبة والدعاء لهم بالثبات والأجر والخلف، وللميت بالرحمة والمغفرة؛ فعزاء الله الذي نتعزَّى به دائماً وأبداً: (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ) ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو الأسوة والقدوة عزَّى أصحابه عند نزول المصائب، وواساهم -كما في السُنة الصحيحة- والسلف اقتدوا به في ذلك؛ فلعلنا أن نقف على بعض ما في السنة الصحيحة وأقوال السلف في لطيف التعزية والدعاء بما هو خير، وفي السنة وأقوال السلف غُنيةٌ عن غيرهما، وخير الهدْيِ هديُه صلى الله عليه وسلم:
وكل خير في اتباع من سلف وكل شر في ابتداع من خلف
في صحيح مسلم عن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سلمة -وقد شخص بصره- فأغمضه، ثم قال: {إن الروح إذا قُبضت تبعها البصر، فضجَّ ناسٌ من أهله، فقال: لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير؛ فإن الملائكة يؤمِّنون على ما تقولون، ثم قال -واسمعوا إلى العزاء-: اللهم اغفر لـ أبي سلمة، وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله -يا رب العالمين- وأفسح له في قبره، ونوِّر له فيه}.
فدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم عزاء ومواساة.
وفي الصحيحين عن أسامة بن زيد -رضي الله عنه- قال: {أرسلت إحدى بنات النبي صلى الله عليه وسلم إلى النبي صلى الله عليه وسلم تدعوه، وتخبره أن لها صبياً في الموت، فقال: ارجع إليها، فأخبرها أن لله تعالى ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى؛ فلتصبر، ولتحتسب}.
وفي الحديث الحسن بشواهده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبة إلا كساه الله من حُلل الكرامة يوم القيامة}.
وروي عن علي رضى الله عنه كما في التعازي أنه قال لمصاب: [[إنك إن صبرت جَرَتْ عليك المقادير وأنت مأجور، وإن جزعت جرت عليك المقادير وأنت موزور]] وروي البيهقي -بإسناده في مناقب الإمام الشافعي رحمه الله-: أن عبد الرحمن بن مهدي مات له ابن، فجزع عليه جزعاً شديداً، فبعث إليه الشافعي يقول له: يا أخي! عزِّ نفسك بما تعزي به غيرك، واستقبح من فعلك ما تستقبحه من غيرك، واعلم أن أعظم المصائب فقد سرور، وحرمان أجر؛ فكيف إذا اجتمعا مع اكتساب وزر؟ ألْهمك الله عند المصائب صبراً، وأحرز لنا ولك بالصبر أجراً، ثم أنشد قائلاً:
إني معزيك لا أَنِّي على ثقة من الحياة ولكن سُنة الدين
فلا المعُزَّى بباقٍ بعد ميته ولا المُعزِّى ولو عاشا إلى حين
ويشاء الله -عز وجل- فيموت بعدها ابن للشافعي -رحمه الله تعالى- الذي كان يُعزِّي أصبح يُعزَّى.
جاءوا يعزونه، فأنشد قائلاً:
وما الدهر إلا هكذا فاصطبر له رزية مالٍ أو فراق حبيب
ولما توفيت ياقوتة بنت المهدي جزع عليها جزعاً لم يُسمَع بمثله، فجلس وجاء الناس يعزونه، فأمر ألا يُحجب عنه أحد، فأكثر الناس في التعازي، واجتهدوا في البلاغة والفصاحة لكونه الخليفة، ثم أجمعوا بعد ذلك أنهم لم يسمعوا تعزية أوجز ولا أبلغ من تعزية ابن شبة -رحمه الله- يوم قال: أعطاك الله -يا أمير المؤمنين- على ما رُزئت أجراً، وأعقبك خيراً، ولا أجهد بلاءك بنقمة، ولا نزع منك نعمة، ثواب الله خير لك منها، ورحمة الله خير لها منك، أسأل الله ألا يحزنك ولا يفتنك، فكان مما سرَّى على أمير المؤمنين مثل هذه التعزية.
ويقول أحد المعزِّين في لطائف التعازي لقاضٍ من قضاة بلخ -وقد توفيت أمه- قال له: إن كانت وفاتها عظةً لك؛ فعظَّم الله أجرك على موتها، وإن لم يكن عظة لك؛ فعظم الله أجرك على موت قلبك، ثم قال: أيها القاضي! أنت تحكم بين عباد الله منذ ثلاثين سنة، ولم يرد عليك أحد حكماً؛ فكيف بحكمٍ واحدٍ عليك من الواحد الأحد ترده ولا ترضى به؟! فسري عنه، وكشف ما به، وقال: تعزَّيت، تعزَّيت.
وعزَّى موسى بن المهدي سلمان بن أبي جعفر في ابنٍ له مات، فقال: أيسرُّك وهو بلية وفتنة، ويحزنك وهو صلاة ورحمة وهدى؟! يشير إلى قول الله -عز وجل-: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن:١٥] ويشير في الثانية إلى قول الله {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:١٥٧] فلله ما أعطى، ولله ما حوى.
وليس لأيام الرزية كالصبرِ:
فحسبك منهم موحشاً فَقْدُ برِّهمُ وحسبك منهم مُسْلياً طلب الأجرِ
وروي أن سليمان بن عبد الملك لما مات ابنه أيوب قال لـ عمر بن عبد العزيز ورجاء: إني لأجد في كبدي جمرة لا يُطفئها إلا عبرة، فقال عمر بن عبد العزيز: اذكر الله يا أمير المؤمنين، وعليك بالصبر؛ فهو أقرب وسيلة إلى الله، وليس الجزع بمحيي من مات، وبالله العصمة؛ فلا تحبطنَّ أجرك.
قال: فنظر إلى رجاء، فقال رجاء لأمير المؤمنين: اقضها يا أمير المؤمنين؛ فما بذاك من بأس، فقد دمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنه إبراهيم ولم يقل ما يُسخط ربه، فأرسل سليمان عينيه بالبكاء حتى ظنوا أن نياط قلبه ستتقطع.
فقال عمر لـ رجاء -معاتبًا-: هذا ما فعلت بأمير المؤمنين، فقال رجاء: دعه -يا عمر - يقضي من بكائه وطراً؛ فلو لم يُخرج من صدره ما ترى لخفت عليه، ثم دعا بماء، فغسل وجهه، ثم قال لهما: لو لم أنزف هذه العبرة لانصدعت كبدي.
ثم انتهى إلى مجلسه فدخل عليه رجل فعزَّاه، فقال: عليكم نزل الكتاب، وأنتم أعرف به مِنَّا، وأنتم أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم منا، ولسنا نعلمك شيئاً لا تعلمه، ولا نذكرك شيئاً قد تنساه، لكنا نعزيك ونواسيك ثم أنشد قائلاً:
وهوَّن ما ألقى من الوجد أنني أجاوره في قبره اليوم أو غداً
قال: أعد، فقال:
وهوَّن ما ألقى من الوجد أنني أجاوره في قبره اليوم أو غداً
فقال: يا غلام! هات الغداء فأكل وشرب، وحمد الله، وسُرَّي عنه.
ومن لطيف التعزية ما قيل من بعض الأعراب عندما دخل على بعض ملوك بني العباس، وقد توفي له ولد اسمه العباس، فعزاه، ثم قال:
اصبر نكن بك صابرين فإنما صبر الرعية عند صبر الرأس
خير من العباس أجرك بعده والله خير منك للعباس
ومن ذلك أن أحدهم أصيب بمصيبة، فجزع، فجاء أخ له، فقال: عظَّم الله أجرك، وأحسن عزاءك:
أخي ما بال قلبك ليس ينقى كأنك لا تظن الموت حقّاً
ألا يا بن الذين مضوا وبادوا أما والله ما ذهبوا لتبقى
فكُشف ما به.
ومات لرجل من السلف ولد، فعزَّاه سفيان بن عيينة -رحمه الله- وهو في كرب شديد، وعزاه آخرون؛ فلم يُكشف ما به حتى جاء الفضيل، فقال: يا هذا! أرأيت لو كنت وابنك في سجن، فأُفرج عن ابنك قبلك أوما كنت تفرح؟ قال: بلى.
قال: فإن ابنك قد خرج من سجن الدنيا قبلك.
قال: فسُرَّي عن الرجل، وانكشف همه، وقال: تعزيت.
وأخيرًا: فإن من ألْطف وأقوى ما سمعت من تعزية غير كلام رسول البرية وسلف الأمة -رضوان الله عليهم- ما قاله ابن سناء الملك، وقد مات لأحد أقاربه ميت، فجزع عليه هذا جزعاً عظيماً، فكان مما قاله ابن سناء: إنا لله، إلى متى هذا الجزع الصبياني، والهلع النسواني، إلى متى هذا الحزن الذي لا يحيي دفينك، بل يميت دينك، ويسلب هدوءك، ويشمت فيك عدوك.
أما على هذا مضى الزمان، وعلى هذا درج الثقلان، وللخراب بُني العمران، وللانتقال سكن السكان، وللموت ولد المولود، وللعدم خلق الوجود.
أتحب أن تبقى ويبقى من تحب فذا خلود، إنا لله وإنا إليه راجعون، أفضل قول الصابر، وفي سبيل الله، وإلى رحمة الله من حُسب في أهل المقابر، أجزل الله أجرك، وأحيا على دفينك صبرك، ووسع لهذه النازلة صدرك، وأنزل على قلبك السكينة ربك، وخفَّف عن قلبك وطيئة كربك، لا جمع الله عليك فراق الأحباب وفراق الثواب، وجمع الله عليك النعمتين نعمة الجلد ونعمة الاحتساب، إني -والله- لشريكك في المصاب، ونصيبي منه لأكثر، ودمع عيني لأغزر:
ولو شئت أن أبكي دماً لبكيته ولكنني في ساحة الصبر أجمل
أخي المصاب: لعل فيما سمعته عزاء لك؛ فلست أول ولا آخر مصاب، جعل الله التعزية لك لا عنك، والخلف عليك لا منك، في الله -عز جل- عزاء من كل هالك، وخلف من كل فائت، وعوض من كل مصيبة، وشر من المصيبة حرمان الأجر فيها:
لابد من فقد ومن فاقد هيهات ما في الناس من خالد
ولا يفوتني هنا أن انبه بهذا الكاشف إلى ما يلي:
أولاً: ينبغي تجنب الاجتماع والجلوس عند أهل الميت للتعزية؛ لأن في ذلك تجديداً للحزن وتكليفاً للمعزى، ومخالفة لهدي السلف الصالح -رضوان الله عليهم- ففي الحديث الصحيح أن جرير بن عبد الله البجلي قال: {كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت بعد دفنه من النياحة} فالذي ينبغي أن ينصرف الناس إلى شئونهم وحوائجهم، فمن صادفهم عزَّاهم في المسجد، في العمل، في الشارع، في السوق وهكذا.
ثانياً: أن ما يُفعل اليوم في التعزية من نصب للخيام والجلوس فيها، من قيل وقال، وصرف للأموال الطائلة من أجل المباهاة والمفاخرة أمر مخالف للمشروع، وواجب علينا أن نتبع فقد كُفينا.
يقول ابن القيم -عليه رحمة الله-: وكان من هديه صلى الله عليه وسلم تعزية أهل الميت، ولم يكن من هديه الاجتماع للعزاء، ولا قراءة القرآن عند قبره، وكل هذه بدعة حادثة.
ثالثاً: ألا يُحدَّ على ميت فوق ثلاثة أيام -كما يفعل كثير من النساء- إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً، فليُعلم كما في الصحيح:
عليكم بهدي الرسول الكريم ومنهاج قرآنه المحكم
رزقنا الله اتباع السنة، ورحمنا الله وموتانا بكرمه ومنِّه.