للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[نصيحة عمر للأمة بحسن الظن]

صورة أخرى: أورد ابن الجوزي في مناقب عمر خطبة عظيمة، وأوردها ابن سعد في طبقاته، قال فيها: [[أيها الناس! ألا إنما كنا نعرفكم إذ بين أظهرنا النبي -صلى الله عليه وسلم- وينزل الوحي وينبئنا الله من أخباركم، ألا وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد انطلق وانقطع الوحي، وإنما نعرفكم بما تقولون، مَن أظهر خيرًا ظننا به خيرًا وأحببناه، ومن أظهر شرًا ظننا به شرًا وأبغضناه عليه، سرائركم بينكم وبين ربكم، ألا وإنه قد أتى عليَّ حين وإنما أنا أحسب أن مَن قرأ القرآن يريد الله وما عنده، ثم خُيِّل إليَّ بآخرة أن رجالاً قد قرءوه يريدون ما عند الناس، فأريدوا الله بقراءتكم، وأريدوه بأعمالكم، ألا وإني -والله- ما أرسل عمالي إليكم ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا أموالكم، ولكني أرسلتهم ليعلِّموكم دينكم وسننكم، فمن فعل به سوى ذلك فليرفعه إليَّ، فوالذي نفسي بيده إذًا لأقصنَّه -أي: لأجرين عليه حكم القصاص- فوثب عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين! أفرأيت إن كان رجل من المسلمين على رعية، فأدب بعض رعيته، أكنت مقصُّه منه؟ قال: إي والذي نفسي بيده؛ لأقصنه، كيف لا أقصه وقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقص من نفسه ألا لا تضربوا المسلمين فتذلوهم، ولا تمنعوهم حقوقهم فتكفروهم، ولا تنزلوهم المهالك فتضيعوهم، فإن رجلاً من المسلمين أحب إليَّ من مائة ألف دينار]].

يا للكلام!

كلام ذوي الألباب أهوى وأشتهي كما يشتهي الماءَ المبردَ شاربُه

الله أكبر! إنه الحق والسكينة ينطقان على لسان عمر -رضي الله عنه وأرضاه-.

هذه رسالة من عمر موزَّعة إلى ثلاثة أصناف: أما الأولى: فإلى من وليَ من أمر المسلمين شيئًا صَغُر، أو كَبُر تُبَيِّن أن مهمتهم تعليم الدين والسنن، لا إذلال المسلمين، ومنعهم حقوقهم، وضربهم، وإنزالهم المهالك.

وهي كذلك رسالة إلى حملة كتاب الله أن يريدوا الله بقراءته.

فليسائل حملة كتاب الله أنفسهم: ماذا زرع القرآن في قلوبهم ونفوسهم؟ وهي أولاً الرسالة إلى من يحكم على النيَّات بالفساد، فيظن بكلمات المسلمين شرًا وهو يجد لها في الخير محملاً:

تعمى بصائرهم عن كل منحرف ويرصدون ذوي التقوى بمرصاد

والرسالة الأخيرة هذه تذكر برسالة أخرى، وبصفحة أخرى مضيئة في تاريخ هذه الأمة.

يوم يدخل الربيع بن سليمان على الشافعي وهو مريض يعوده، فيقول من ضمن دعائه له: قوَّى الله ضعفك يا إمام! فقال الشافعي: يا ربيع! لو قوى ضعفي لقتلني، قال الربيع على الفور: والله -الذي لا إله إلا هو- ما قصدت ذلك يا إمام! فقال الشافعي: يا ربيع! والذي لا إله إلا هو لو شتمتني صراحًا لعلمت وتيقنت أنك لم تقصد ذلك.

يا لله! نهدي هذا الكلام مع التحية لبعض الذين يقفون على عبارة لها في الخير ألف محمل وفي الشر محمل، ثم يحملونها على الشر.

والله! إن الحسرة والألم ليعتريان المسلم يوم يرى الفُرْقَة بين من ينتسبون لعقيدة واحدة، ومنهج واحد إلى عقيدة أهل السنة والجماعة ومنهجهم، ويحزن أخرى يوم يرى الشيطان وحضور النفس تؤزُّ المسلم أزًّا للفرقة والتنازع والتباغض، وعدوهم واحد يحارب الإسلام وأهله أيًّا كانوا.

أهل السنة لا ننكر أنهم قد يختلفون، فقد يقع بينهم الاختلاف حول بعض المسائل التي يجوز فيها الاختلاف، لكن هذا لا يؤدي إلى اختلاف القلوب أبداً.

يا طلاب العلم المخلصين! يا دعاة الحق المبين! ألا من رجعة صادقة إلى الله نرتفع بها على ذواتنا وأشخاصنا وأغراضنا الدنيوية؟! ألا من رجل رشيد يفكر بعمق المأساة وخطرها على الأمة الإسلامية بأسرها؟! والله! إن لم نسعَ لرَأْبِ الصَّدْع، وبذل الولاء والمحبة لكل مؤمن فإن هناك فتنة وفسادًا كبيرًا سيحل بنا إن لم يتداركنا الله برحمة من عنده، يجمع الله بها شتات القلوب وتتوحد بها كلمات دعاته المخلصين: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال:٧٣] فأي خير إن صدر من أخيك ما لم يمكن حمله على الخير فليُتَعذَّر عنه.

ولن يعدم قاصد الخير أن يجد لإخوانه ما يبقي صدره سليمًا، ونفسه رَضِيَّه، فإن لم يكن ولم تستطع ذلك فما كافأ عبد من عصى الله فيه بمثل أن يطيع الله فيه:

فوالله ما مال الفتى بذخيرة ولكن إخوانَ الثقات الذخائرُ

صورة أخرى: أورد ابن الجوزي في مناقبه عن سعيد بن أبي بردة قال: [[كتب عمر إلى أبي موسى الأشعري قائلا: أما بعد: فإن أسعد الرعاة من سعدت به رعيته، وإن أشقى الرعاة من شقيت به رعيته، إياك أن تزيغ فيزيغ عمالك فيكون مثلك في ذلك مثل البهيمة: نظرت إلى خضرة الأرض فرعت فيها ترجو بذلك السمن وإنما حسبها في سمنها -بمعنى: أنها إذا سمنت ذبحت- والسلام عليك]].

يا للكلام المزين بالفعال.

قولوا لمن ملأ الزمان تشدقاً بالعدل أين العدل يا متشدق؟!

نصيحة توجه إلى من ولي ولاية صغيرة أو كبيرة فهو الناصح رضي الله عنه.

والمؤمنون من طبعهم النصح والمنافقون من طبعهم الغش {وكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، والإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته، وكلكم راع ومسئول عن رعيته، وما من راع استرعاه الله رعية فبات غاشاً لهم إلا حرم الله عليه رائحة الجنة}.