[ضرورة معرفة فضل الله على العبد]
فيا عبد الله! اعرف عزة الله في قضائه، وبرِّه في ستره، وحلمه في إمهالك، وفضله في مغفرته، فلله عليك أفضال وأفضال:
أولها: ستره عليك حال ارتكابك للذنب، أما -والله- لو شاء الله لفضحك على رءوس الخلائق، فما جلست مجلساً، ولا حضرت مَجْمَعاً إلا وعُيِّرت بذلك الذنب؛ فكم من عاصٍ نفس معصيتك فُضِحَ وسترك الله الذي لا إله إلا هو!
ويا عجباً! لأقوام باتوا يسترهم الله، فأصبحوا يتحدثون بذنوبهم، قد هتكوا ستر الله عليهم! أولئك غير معافين، إنهم المجاهرون، وكل أمة محمد صلى الله عليه وسلم معافى إلا المجاهرين، فاشكر ربك أنْ سترك، وتب إليه قبل أن يفعل بك ما فعل بغيرك، وقل: اللهم استر واجعل تحت الستر ما تحب، اللهم استر واجعل تحت الستر ما تحب.
ثانيها: حلم الله عليك.
حلم الله عليك في إمهالك، ولو شاء الله لعاجلك بالعقوبة، فما كنت ممن يسمع الآن سعة رحمته.
ثالثها -وهو من أعظمها-: فرح الله عز وجل بتوبتك، فرح إحسان وبرّ ولطف، لا فرحة محتاج إلى توبة عبده، فلن يَتَكثَّر بك من قِلَّة، ولن يتعزز بك من ذلَّة، ولن ينتصر بك من غَلَبَة، تبارك الله وجل الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما ثبت في صحيح مسلم: {لَلهُ أشد فرحاً بتوبة عبده المؤمن من رجل في أرض دَوِّيَّة مهلكة قَفْر خالية، معه راحلة عليها طعامه وشرابه، فنام، ثم استيقظ وقد ذهبت، فطلبها حتى أدركه العطش، ثم قال: أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت، توسَّد ساعده ينتظر موته؛ فإذا براحلته عنده عليها طعامه وشرابه وزاده، فأخطأ من شدة الفرح، فقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك} لا إله إلا الله! كيف بلغ به الفرح حتى أخطأ فقال: أنت عبدي وأنا ربك؟!
فرح لا تنقله الألفاظ، وحب الله للعبد أشد من حب العبد لله.
فيفرح بتوبته، ويجازيه بأن يجعل في قلبه من اللذة والفرح والسعادة والسرور ما يُرى بادياً على قسمات وجهه إن صدق ونصح وأخلص، والله ما هو إلا كرجل برز للقتل، ثم عفي عنه، والجزاء من جنس العمل.
رابعها: تبديل السيئات إلى حسنات.
قال الله: {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهَا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النفْسَ التِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً} [الفرقان:٦٨ - ٧٠] فما النتيجة؟ {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَّحِيماً} [الفرقان:٧٠].
فإن هوى بك إبليسُ لمعصية فأَهْلِكَنْه بالاستغفار يَنْتَحِبِ
بسجدة لك في الأسحار خاشعة سجود مُعْترف لله مُغْتَرب
روى المنذري بسند جيد عن عبد الرحمن بن جبير قال: {أتى النبي صلى الله عليه وسلم شيخ كبير هَرِم، سقط حاجباه على عينيه، وهو مدَّعمُ على عصا -أي: متكئاً على عصا- حتى قام بين يديْ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت رجلاً عمل الذنوب كلها، لم يترك داجَّة ولا حاجَّة إلا أتاها، لو قُسِّمت خطيئته على أهل الأرض لأوبقتهم -لأهلكتهم- أله من توبة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: هل أسلمت؟ قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، قال: تفعل الخيرات، وتترك السيئات، فيجعلهن الله لك كلهن خيرات، قال: وغدراتي وفجراتي يا رسول الله؟! قال: نعم.
وغدراتك وفجراتك، فقال: الله أكبر! الله أكبر! ثم ادَّعم على عصاه، فلم يزل يردد: الله أكبر! حتى توارى عن الأنظار}.
فضل الله واسع، لا تقتحمه العبارة، ولا تجسر إليه الإشارة، لا يهلك إلا هالك، ولا يشقى إلا شقي، فلا تيئس من رحمة الله، ولا تجترئ على معصية الله، وتب كلما أذنبت.
قال بعضهم لشيخه: إني أذنب.
قال: تب.
قال: ثم أعود.
قال: تب.
قال: إلى متى؟ قال: إلى أن تحزن الشيطان، ودَّ لو ظفر منك باليأس والقنوط.
دعاكم رب بالندى يعرف يا من على أنفسهم أسرفوا
لا تقنطوا من رحمتي واعرفوا إني لغفار الذنوب العظام
يا من وسِعْتَ برحمةٍ كل الورى من قد أطاع ومن غدا يتأثَّمُ
إن كان لا يرجوك إلا محسنٌ فبمن يلوذ ويستجير المُجْرمُ