للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[التفكر فيمن مضوا والأمر بالتوبة]

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

عباد الله: اتقوا الله، واعلموا أن الآمال تُطوى، والأعمار تفنى، والأبدان تحت التراب تبلى.

والليل والنهار يقرِّبان كل بعيد، ويبليان كل جديد.

وفي ذلك -والله- ما يلهي عن الشهوات، ويسلي عن اللذات، ويرغِّب في الباقيات الصالحات.

التفتوا، وانظروا، وتدبروا، وتأملوا، وتملُّوا بعيون قلوبكم:

أين من كان حولكم من ذوي البأس والخطر

سائلوا عنهم الديار واستبحثوا الخبر

سبقونا إلى الرحيل وإنا على الأثر

كان عبد الرحمن بن يزيد بن معاوية خِلاًّ لـ عبد الملك بن مروان، فلمَّا مات عبد الملك ودُفِن، وتفرَّق الناس عن قبره، وقف عليه عبد الرحمن بن يزيد قائلاً: أنت عبد الملك، أنت من كنت تعدني خيرًا فأرجوك، وتتوعدني فأخافك، الآن تصبح وتمسي وليس معك من مُلكك غير ثوبك، وليس لك من ملكك سوى تراب أربعة أذرع في ذراعين، إنه لملك هيِّن حقيرٌ وضيعٌ، أفٍ ثم أفٍ لدنيا لا يدوم نعيمها، ثم رجع إلى أهله، فاجتهد وجدَّ في العبادة، وعلم أنها الباقية، حتى صار كأنه شنٌ بالٍ من كثرة ما أجهد نفسه في العبادة، فدخل عليه بعض أهله يعاتبه؛ لأنه أضر بنفسه، فقال للذي يعاتبه: أسألك عن شيء فهل تصدقني فيه؟ قال: نعم.

قال: نشدتك الله! عن حالتك التي أنت عليها أترضاها حين يأتيك ملك الموت؟ قال: اللهم لا.

قال: نشدتك الله! أعزمت على انتقال منها إلى غيرها؟ قال: اللهم لم أشاور عقلي بعد.

قال: نشدتك الله أفتأمن أن يأتيك ملك الموت على حالك التي أنت عليها؟ قال: اللهم لا آمن.

قال: حال ما أقام عليها عاقل، وما يقيم عليها ذو قلب ولبّ، إنَّ الطائر إذا علم أن الأنثى قد حملت البيض أخذ ينقل العيدان لبناء العش قبل الوضع، أفتراك ما علمت قرب رحيلك إلى القبر الذي ستنفرد فيه وحدك، ويُسَدُ عليك فيه بالطين وحدك؟ ألا عملت لك فراشًا من تقوى الله، فمن عمل صالحًا فلأنفسهم يمهدون.

فلا يومك الماضي عليك بعائدِ ولا يومك الآتي به أنت واثقُ

فاستعد وأعدَّ.

يا شابًا عكف على القرآن! مسجده ومصلاه، والسنة مظهره ومخبره سل الله الثبات.

وازدد من الحسنات، واجعل الآخرة همَّك يجعل الله غناك في قلبك، ويجمع لك شملك، وتأتيك الدنيا راغمة.

فجُد وسارع واغتنم زمن الصبا.

ويا شابًا هجر القرآن! وأعطى نفسه هواها فدسَّاها؛ لتقفن موقفًا ينسى الخليل به الخليل، وليركبن عليك من الثرى ثقل ثقيل، ولتسألن عن النَّقِير والقِطْمِير، والصغير والكبير.

فعُد فالعود أحْمَدُ قبل أن تقول: رب ارجعون، فلا رجوع.

ذهب العمر وفات يا أسير الشهوات ومضى وقتك في لهو وسهو وسُبات

يا شيخاً اقترب من القبر! عرف أنه منه على قاب قوسين أو أدنى، فأكثر من الاستغفار، وحبس لسانه عن الزُّور، ورعى رعيَّته كما ينبغي، وعرف قدر يومه وليلته، بشراك بشراك، ضاعف العمل؛ فإنَّ الخيل إذا وصلت إلى آخر السباق قدَّمت كل ما لديها من قوة لتفوز بالجائزة.

ويا شيخاً نسى الله في شيخوخته بعد شبابه! فارتكب الجرائم، وقارف الكبائر، ووقف على عتبة الموت.

أين الهوى والشهوات؟ ذهبت، وبقيت التَّبِعات، تتمنى بعد يُبس العُود العَوْد وهيهات!

يا من شَاب رأسه! فما استحيا من الله.

يا مَنْ شَاب رأسه! فانتهك حدود الله، وأعرض عن منهج الله، تُبْ إلى الله قبل أن تكون ممَّن لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا يزكِّيهم، ولهم عذاب أليم.

إلى من ضيَّع الصلاة، واتَّبع الشهوات، إلى المنافقين والزناة، إلى الظلمة والبغاة، إلى من طغى وآثر الحياة الدُّنيا، إلى المُغْتابين والنَّمَّامين والحاسدين وأكلة الربا، إلى من ألهاهم التكاثر فنسوا بعثرة المقابر، وتحصيل ما في السرائر، إلى من أضنى عينيه بمشاهدة المسلسلات، واستقبال القاذورات.

إلى من طربت أذنه باستماع الأغنيات، إلى من شغلته أمواله المحرمة والشركات، إلى من أعمى الهوى بصره، وأصمَّ سمعه فكان حيًّا وهو في عداد الأموات، إلى الراشين والمُرْتشين وأهل السُّكْر والمخدَّرات، إلى المُسبل والمنَّان والمنفِق سلعته بالحَلِف الكاذب، إلى الكاسيات العاريات، إلى العصاة جميعاً:

من الموت والقبر والحساب أين المفر؟!

{كَلَّا لا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} [القيامة:١١ - ١٢] {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء:٢٠٥ - ٢٠٧].

عباد الله: آن الأوان أن نُعْلِنَها توبة إلى الله باللِّسان والجَنَان.