اعلموا أن النفس بطبيعتها -يا أيها الأحبة- طموحة إلى الشهوات واللَّذَّات، كسولة عن الطاعات وفعل الخيرات، لكن في قَمْعِها عن رغبتها عزُّها، وفي تمكينها مما تشتهي ذلها وهوانها؛ فمن وُفِّق لقمْعِها نال المُنَى، ونفسَه بنى.
ومن أرخى لها العنان ألْقَتْ به إلى سُبُل الهلاك والردى، ونفسَه هدم وما بنى.
فمن هجر اللذات نال المنى ومن أكبَّ على اللذات عض على اليد
ففي قمع أهواء النفوس اعتزازها وفي نيلها ما تشتهي ذلُّ سرمدِ
فلا تشتغل إلا بما يُكسب العلى ولا ترضَ للنفس النفيسة بالرَّدِي
وعلى هذا فالناس مختلفون في بناء أنفسهم وتأسيسها وتربيتها اختلافاً بيِّناً جليّاً واضحاً، يظهر ذلك في استقبال المِحَن والمِنَح، والإغراء والتحذير، والنعم والنِقَم، والترغيب والترهيب، والفقر والغنى؛ فمنهم من أسَّس بنيانه على تقوى من الله ورضوان؛ فلا تضره فتنة، ولا تُزَعْزعُه شبهة، ولا تغلبه شهوة، صامد كالطود الشامخ، فهم الحياة نعمة ونقمة، ومحنة ومنحة، ويسراً وعسراً، ثم عمل موازنة، فوجد أن
الدهر يومان ذا أمن وذا خطر والعيش عيشان ذا صفو وذا كدر
فضبط نفسه في الحاليْن؛ فلم يأسَ على ما فات، ولم يفرح بما هو آتٍ؛ فلا خُيَلاء عند غنى، ولا حزن عند افتقار، لا يبطر إن رَأَس، ولا يتكدر إن رُئِس، يقلق من الدنيا، ولا يقلق على الدنيا أبداً، يستعجل الباقية على الفانية؛ فتجده راضي النفس، مطمئن الفؤاد، إن هذا الصنف من الناس صنف قيِّم كريم، لكنه قليل قليل، وما ضره أنه قليل وهو عزيز؛ فمثله كالشجرة الطيبة، عميقة الجذور، ثابتة الأصول، مفيدة الفروع، لا تزعزعها الأعاصير، ولا تنال منها العواصف، والسر إنه الإيمان، الذي إذا خالطت بشاشته القلوب ثبت صاحبه، واطمأن وضرب بجذوره فلا تزعزعه المِحَن، ولا تؤثر فيه الفتن؛ بل يُكِنُّ الخير ويجني الفوائد، شجر بثمر، لسان، حال هذا الصنف:
أنا الحسام بريق الشمس في طرفٍ مني وشفرة سيف الهند في طرف
فلا أبالي بأشواك ولا مِحَنٍ على طريقي ولي عزمي ولي شغفي
ماض فلو كنت وحدي والدُّنَا صرخت بي قف لسرت فلم أُبطئ ولم أقفِ
وهذه نماذج من هذا الصنف العزيز الشامخ القليل، جديرة بالتأمل، أضعها بين أيديكم، وهي قليل من كثير.