[الاتزان والعدل في كل الأمور]
يا فتى الإسلام! اقصد البحر معتدلاً متزناً في حبك وبغضك وولائك وعدواتك، واحمل معك ميزان السنة الذي ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يوم يقول في فتاواه: إذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر، وبر وفجور، وطاعة ومعصية، وسنة وبدعة استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، ومن العداوة والعقاب بقدر ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص موجبات الإكرام والإهانة.
ثم أتبع ذلك بقول الخطيب البغدادي: فليس من شريف ولا عالم غير الأنبياء إلا وفيه عيب، ولكن من الناس من لا ينبغي أن تذكر عيوبه، فمتى كان فضله أكثر من نقصه وهب نقصه لفضله.
ولذا نقل ابن القيم رحمه الله عن شيخ الإسلام قوله: انظر لموسى صلوات الله وسلامه عليه: رمى الألواح التي فيها كلام الله فكسرها، وجر بلحية نبي مثله وهو هارون عليه السلام، ولطم أعين ملك الموت ففقأها، وربه تعالى يحتمل له كل ذلك ويحبه ويكرمه؛ لأنه قام لله تعالى تلك المقامات العظيمة في مقابلة أعدى عدو له فرعون، وصدع بأمر الله، وعالج أمتي القبط وبني إسرائيل أشد المعالجة، وأمتان كهذه الأمم معالجتها شديدة أليمة، يعبدون بقرة ثم يتوقفون في ذبح بقرة، ثم يعبرون البحر فيقولون: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة؛ فكانت هذه الأمور كلها كالشعرة في البحر.
لا غرو.
إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث، ومن قل خطؤه وكثر صوابه فهو على خير، والعبرة بكمال النهاية لا بنقص البداية.
فيا قاصد البحر: لا يكن حبك كلفاً، ولا بغضك تلفاً؛ فإن من الناس من إذا أحب كلف كما يكلف الصبي فلا يستغني عن محبوبه طرفة عين، وإذا أبغض أحب لصاحبه التلف.
إن الذي لا عيب فيه غير الأنبياء لم يخلق بعد، والكمال لصاحب الكمال.
وكفى بالمرء نبلاً أن تعد معايبه
فاربأ بنفسك وأنا أربأ بك أن تكون ممن تستفزه كلمة فينسى معها قاموس التآخي، ويجرد أصحابه من كل فضل كأن لم تكن بينه وبينهم مودة:
ولقد رأيت معاشراً جمحت بهم تلك الطبيعة نحو كل زيار
تهوى نفوسهم أذى إخوانهم شغلاً بكل دناءة وصغار
تبعوا الهوى فهوى بهم وكذا الهوى منه الهوان بأهله فحذار
فانظر بعين الحق لا عين الهوى فالحق للعين الجلية عار
صحح الأخطاء، واعدل، ولا تمس المشاعر، وامدح على قليل الصواب يكثر من الممدوح الصواب؛ ولا خير في المبالغة في شيء.
واقصد البحر بعدل واتزن وخلِّ القنوات.
عرِّف نفسك قدرها، وانهج بها نهج بكر بن عبد الله يوم يقول: إن رأيت من هو أكبر مني سناً قلت: سبقني بالإيمان والعمل الصالح فهو خير مني، وإن رأيت من هو أصغر مني فأقول: سبقته إلى الذنوب والمعاصي فهو خير مني، وإن أكرمني إخوتي قلت: تفضلوا علي فجزاهم ربي خيراً، وإن أهانني إخوتي قلت: ذاك لذنب أصبته، وعهد بيني وبين الله ضيعته، ورحم الله امرأً عرف قدر نفسه.
فاقصد البحر وقَدْر النفس فاعرف وخلِّ القنوات!