[من وسائل كشف الكربة: التأسي بأهل المصائب]
ومما يكشف الكربة عند فقد الأحبة: برد التأسي بأهل المصائب؛ ففي ذلك إطفاء لنار المصيبة، وليعلم أنه في كل قرية ومدينة بل في كل بيت من أصيب؛ فمنهم من أصيب مرة، ومنهم من أصيب مراراً، وليس ذلك بمنقطع حتى يأتي على جميع أهل البيت، حتى نفس المصاب سيصاب بنفسه يوماً ما، أسوة بأمثاله ممن تقدمه؛ فإن نظر فلن يرى يمنة إلا محنة، ويسرة إلا حسرة.
ذكر ابن الجوزي بإسناده عن عبد الله بن زياد قال: حدثني بعض من قرأ في الكتب: أن ذا القرنين لما رجع من مشارق الأرض ومغاربها، وبلغ أرض بابل مرض مرضاً شديداً، فعلم أنه مرض الموت، وأشفق على نفسه، فكتب إلى أمه معزِّياً في ذكاء قائلاً: يا أماه! إذا جاءكِ كتابي فاصنعي طعاماً، واجمعي من قدرت عليه من الناس، ولا يأكل طعامك من أصيب بمصيبة، واعلمي هل وجدتِ لشيء قراراً.
إني لأرجو أن يكون الذي أذهب إليه خيراً مما أنا فيه.
فلما وصل كتابه صنعت طعاماً عظيماً، وجمعت الناس، وقالت: لا يأكل هذا من أُصيب بمصيبة، فلم يتقدم أحد للأكل من هذا الطعام، فعلمت مراد ابنها، فقالت: بني! من مبلغك عني أنك وعظتني فاتعظت، وعزيتني فتعزيت؛ فعليك السلام حياً وميتاً.
فما من مصيبة أصيب بها مصاب إلا وهناك ما هو أعظم منها عند غيره.
قيل لرجل: كم لك من ولد؟ قال: تسعة.
قيل له: إنما نعرف لك ابناً واحداً.
فقال: الحمد لله، كان لي عشرة، فقدمت تسعة، أحتسبهم عند الباري الرحيم، وبقى لي واحد لا أدري أنا له أم هو لي؟
لكل اجتماع من خليلين فرقة وكل الذي دون الممات قليل
وإن افتقادي واحداً بعد واحد دليل على ألا يدوم خليل
وهاهي أعرابية اسمها أم غسان -كما في عيون الأخبار - فقدت جميع أبنائها، وفوق ذلك كُفَّ بصرها.
مصيبة وأي مصيبة! كانت تعيش بمِغْزَلِها، وتقول: الحمد لله على ما قضى، رضيت من الله ما رضي لي، وأستعين الله على بيت ضيق الفناء قليل الإيواء، ثم تُصاب مصيبة أخرى بموت جارة لها كانت تبثُّها أشجانها وأحزانها، فيقال لها: أين فلانة؟ فتقول: الحمد لله على قضاء الله، والرجعة إلى الله.
تقسم جاراتها بيتها وسارت إلى بيتها الأدلج
وفي العاقبة للإشبيلي يروي أن امرأة من الأعراب حجَّت، ومعها وحيدها، فمرض عليها في الطريق، ومات، فدفنته بمساعدة الركب الذين معها، ثم وقفت بعد دفنه، وقالت: يا بني! والله لقد غذوتك رضيعاً، وفقدتك سريعاً، وكأن لم يكن بين الحالتين مدة ألتذُّ بها بعيشك، وأتمتع فيها بالنظر إلى وجهك، ثم قالت: اللهم منك العدل، ومن خلقك الجور، اللهم وهبتني قرة عين، فلم تمتعني به كثيراً بل سلبتنيه وشيكاً، ثم أمرتني بالصبر، ووعدتني عليه الأجر، فصدقت وعدك، ورضيت قضاءك، فلك الحمد في السَّراء والضَّراء.
اللهم ارحم غربته، واستر عورته يوم تُكشف العورات وتظهر السوءات، رحم الله من ترحَّم على من استودعته الردم، ووسدته الثرى.
ثم لما أرادت الانصراف قالت: أي بني! لقد تزودت لسفري فيا ليت شعري ما زادُك لسفرك ويوم ميعادك؟! اللهم إني أسألك الرضا عنه برضائي عنه.
اللهم إني أسألك الرضا عنه برضائي عنه.
أستودعك بني من استودعني إياك جنيناً في الأحشاء، ومن يجازي من صبر في السراء والضراء.
من شاء بعدك فليمُت فعليك كنت أحاذر
كنت السواد لناظري فعمى عليك الناظر
ليت المنازل والديار حفائرُ ومقابر
إني وغيري لا محالة حيث صرت لصائر
وأخرج ابن أبي الدنيا من الاعتبار عن الكندي قال: كانت امرأة من بني عامر لها تسعة من الأولاد دخلت بهم -ذات يوم- غاراً، ثم خرجت لحاجة، وتركتهم في الغار، ولما رجعت سقط الغار عليهم، وانطبق، فجعلت تسمع أنينهم وتتلظَّى بجحيم عويلهم، لا تملك لهم حولاً ولا طولاً، تَئنُّ وتزفر زفرات قطَّعت أحشاءها والذي عانا البلايا عرف، حتى فقدت أنينهم؛ فلم تسمع لهم أنيناً، فعلمت أنهم ماتوا جميعاً تحت هذا الغار، فرجعت وبها من الأسى ما الله به عليم، فكانت تردد وتقول:
ربيتهم تسعة حتى إذا اتسقوا أُفردت منهم كقرن الأعضب الوحدِ
وكل أم وإن سُرَّت بما ولدت يوماً ستفقد من ربَّت من الولدِ
وأخيراً: فلقد حدثني من أثق به من الصالحين -كما أحسبه والله حسيبه- أن هناك رجلاً كان له ثلاثة أولاد صغار وزوجة في هناء وأمان وسعادة وسكينة واطمئنان، وذات يوم جاءهم أضياف، فقام الأب وذبح لأضيافه كبشاً، والأولاد ينظرون، ودخل للجلوس مع أضيافه في انتظار إعداد الطعام، وقامت الأم بتغسيل وتنظيف أصغرهم في وعاء كبير مليء بالماء، أخذ أكبر الأولاد السكين يقلد أباه في ذبح الشياه، وقام على أخيه الأوسط، فأضجعه، ثم ذبحه ذبح الشاه، وجاء لأمه يخبرها فصاحت ورمت بالصغير في ذهول في وعاء الماء، فغرق الصغير في وعاء الماء، وخرجت إلى الأوسط فإذا هو يتشحط في دمه! وهرب أكبرهم إلى الشارع، فاعترضته سيارة، فدهسته! ذُهلت الأم، وثكلت جميع أبنائها، وجاء الأب فإذا بها تترنح، وتخبره الخبر، ثم تسقط ميتة وجداً على أبنائها الثلاثة، ولا إله إلا الله!
صُبَّت عليها مصائب لو أنها صُبت على الأيام عدن لياليا
أما الأب فحمد الله -عز وجل- وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، ودخل إلى أضيافه، وطلب منهم أن يحفروا قبوراً، وأخبرهم الخبر، وياله من خبر! ويالها من ضيافة!
حفروا القبور، وصلُّوا على الجميع، ودعوا للميت والحي، واستعدَّ كل ضيف منهم أن يقدم ابنته زوجة لذلك الأب الصابر المحتسب، ويختار ابنة واحد منهم ويتزوجها، فيذكر لي من نقل لي هذا أن له -الآن- ثلاثة عشراً ولداً من هذه الزوجة، حدث عظيم وخطب أليم؛ فهلا نظرت لمثل هذا المَصاب أيها المُصاب.
فما مصابك مع مثل هذا المصاب؟ ستهون عليك مصيبتك ولا شك، واعلم أن هناك من هو أعظم منه مصاباً؛ فإذا علم المصاب علم اليقين أنه لو فتش العالم كله لم يرَ فيهم إلا مبتلى؛ إما بفوات محبوب، أو بحصول مكروه سُرِّي عنه؛ فسرور الدنيا أحلام نوم إن أضحكت أَبكتْ، وإن سرَّتْ ساءت، وما ملئت دار حبرة إلا مُلئت عبرة، وما حصل للشخص في يوم من سرور إلا وأعقبه شرور؛ فلكل فرحة ترحة، وما كان ضحك قط إلا وكان بعده بكاء.
فلتعلم ولتتأمل أحوال المكروبين -أيها المصاب- فما مصيبتك بينهم إلا ذرة في فضاء المصائب، وقطرة في بحار الكروب.
تأسَّ أطال الله عمرك بالأُلى مضَوْا ولهم ذكر جميل مُخلَّد
فلو لم يكن في الموت خير لمن مضى لما مات خير الأنبياء محمد
صلوات الله وسلامه عليه.