[مسارعة الحسن البصري في الدعوة إلى الله]
وهاهو الحسن عليه رحمة الله: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُّفْتَرَى} [يوسف:١١١] كانوا سباقين إلى الخير، لا يضيعون فرصة لطاعة الله عز وجل.
والٍ من الولاة في عهده بنى له بناء في واسط وزخرفه، وأكثر فيه من الزخرفة، ثم دعا الناس للفرجة عليه والدعاء له.
فما كان من الحسن يوم اجتمع الناس كلهم إلا أن رآها فرصة لا تُعوَّض أن يعظ الناس، ويذكرهم بالله، ويزهدهم في الدنيا، ويرغبهم فيما عند الله جل وعلا، فما كان منه إلا أن انطلق، ثم وقف بجانبهم هناك، فحمد الله وأثنى عليه، فاتجهت إليه القلوب والأبصار، ثم كان مما قال: لقد نظرتم إلى ما ابتنى أخبث الأخبثين فوجدنا أن فرعون بنى أعلى مما بنى، وشيَّد أعلى مما شيَّد، أليس هو القائل: (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي) فأجرى الله الأنهار من فوق رأسه؟
ليته يعلم أن أهل السماء مقتوه، وأن أهل الأرض قد غرُّوه واندفع يتدفق في موعظته حتى أشفق عليه بعض السامعين من هذا الوالي، فقالوا: حسبك يا أبا سعيد! حسبك.
قال: لا والله! لقد أخذ الله الميثاق على أهل العلم ليبيننَّه للناس ولا يكتمونه: {من كتم علماً ألجمه الله بلجام من نار}.
ويسمع ذلك الوالي، ويأتي لجُلاسه يتميز من الغيظ، ويدخل عليهم، ويقول: تباً لكم، وسحقاً، وهلاكاً لكم وبعداً، يقوم عبد من عبيد أهل البصرة فيقول فينا ما شاء أن يقول، ثم لا يجد من يرده أو ينكر عليه، والله لأسقينَّكم من دمه يا معشر الجبناء! ثم أمر بالسيف والجلاد والنطع، وما كان منه إلا أن استدعى الحسن عليه رحمة الله.
فجاء الحسن، ويوم رأى السيف ورأى الجلاد، تمتم بكلمات لم يعرف الحجاب والحُراس ماذا يقول؟
ويوم دخل، وقد خاف الله؛ خوَّف الله منه كل شيء، دخل على هذا الوالي فما كان منه إلا أن قال: أهلاً بك أيها الإمام! وقام يرحب به، ويقول: هاهنا هاهنا يا أبا سعيد! حتى أجلسه على مجلسه، وعلى كرسيه، وجلس بجانبه، يسأله بعض الأسئلة ويقول له بعد ذلك: أنت أعلم العلماء يا أبا سعيد! انصرف راشداً.
وهذا بعد أن طيَّب لحيته، فخرج من عنده فلَحِق به أحد الحجاب، وقال له: والله! لقد دعاك لغير ما فعل بك، فماذا كنت تقول؟ قال: دعني ونفسي.
قال: أسألك بالله! ماذا كنت تقول وأنت داخل؟ قال: كنت أقول: يا وليّ نعمتي، وملاذي عند كربتي، اجعل نقمته عليَّ برداً وسلاماً، كما جعلت النار برداً وسلاماً على إبراهيم.
اتصل بالله عز وجل ولم يضيع هذه الفرصة، وعلم الله صدقه، فأنجاه وأنقذه وحفظه: {فَاللهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:٦٤].
فالحياة -يا أيها الأحبة- فرص من اغتنمها فاز، ومن ضيَّعها خسر: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ) [الحديد:٢٠].
إذا هَبت رياحُك فاغْتنمها فإن لكل خافقةٍ سكون
ولا تغفل عن الإحسانِ فيها فلا تدري السكون متى يكونُ
وإن درَّت نياقُك فاحتلبها فلا تدري الفَصيل لمن يكونُ
أترجو أن تكون وأنت شيخٌ كما قد كنت أيام الشبابِ
لقد خدعتك نفسك ليس ثوب دريس كالجديد من الثياب