[الجيل الحاضر واغتراره بالدنيا]
معشر الإخوة: ولما التفتت الأمة إلى غير تلك القيم ولم تزن الدنيا بميزانها الحق؛ رفعت الطين، ووضعت الدين، فقدت وهي على البر هويتها ومقوماتها، فإذا عموم أبنائها دون آحادهم عقولٌ في طلب الدنيا، بُلْه عما خلقوا له، طلاب أمانٍ، دين أحدهم لعقة على لسانه، عن الباقي مصروف، وبالفاني مشغوف، بالخوف من كل شيء إلا من مولاه معروف بالخزي محفوف، محب للدنيا كاره للموت، من خوف الموت بالموت وأشد من الموت يعتبر الدنيا رأس ماله، ومنتهى آماله، يود لو يعمر ألف سنة حتى إذا جاءه الموت خرج من الدنيا وهو حزين متلهف على ما يفارقه، كاره مستبشع ما يستقبله غثاء هباء، لا ينفع ولا يدفع ولا يرفع ولا يصفع ولا يشفع.
إنما تلك مسوخ ورثت نسبة الإسلام عن أم وجَدْ
وعندها:
تشابهت البهائم والعِبِدَّا علينا والموالي والصميمُ
أولئك الجيل فهموا الإسلام فهماً دقيقاً، فساروا بمفتاح السمو يفتحون المشارق والمغارب، لا يستعصي عليهم قُطر، ولا يستعصي عليهم مِصر الحصون تُفْتَح، والقلوب تُفْتَح، والقيم الصحيحة تسود، والموازين تُصَحَّح، فكانوا السماء.
ولما تخلفت هذه المفاهيم عند مَن بعدهم أصيبوا بمركَّب النقص، فكانوا السماوة.
وشتان ما بين السماوة والسماء.
ألا إن من السخافة أن يقال: إن السماوة والسماء واحد؛ لأن النسبة إليهما في اللغة واحدة (سماوي) لا يقول به إلا غبي أو صبي أو عقل وراءه خبي.
من رام شهداً فإن النحل مصدره ومن بغى السم فليطلب له الرقطا
سر السمو إلى السماء لذلك الجيل؛ هو تحررهم من كل سلطان سوى سلطان الله، يعدلون بعدل الله، ويزنون بميزان الله، ويعملون على اسم الله لا سواه يوالون الله ويعادون أعداء الله رقابة الله كمنت في ضمائرهم، والطمع في رضا الله والخوف منه أغناهم عن رقابة البشر وعقوبتهم، فصار المسلم حقاً هو الأعلى.
يقف موقف المجرد من كل قوة مادية، فلا يفارقه شعوره بأنه الأعلى، يتداعى عليه الأعداء وهو كالطود ثابتاً لا يتزحزح، وهَبْها كانت القاضية فماذا يضيره؟
الناس يموتون وهو ورهطه يستشهدون، فيغادرون الأرض إلى رحمة الله حين يغادرها غيرهم إلى غضب الله.
هو الأعلى
من الله يتلقى، وإليه يرجع، وعلى منهجه يسير يسود مجتمعه عقائد باطلة مغايرة لما هو عليه، فلا يفارقه شعوره بأنه الأعلى.
يضج الباطل ويرفع عقيرته التي قد تعشى معها الأبصار، وتغشى البصائر، فلا يفارقه الشعور رغم الضجيج لأنه الأعلى.
يغرق المجتمع في شهواته، ويمضي مع نزواته إلى الوحل والطين، فينظر من أُفُقِه العالي إلى الغارقين في الوحل اللاصقين بالطين، وهو مفرد وحيد، فلا تراوده نفسه على خلع ردائه الطاهر، والانغماس معهم في الوحل لأنه الأعلى بلذة الإيمان والتقوى.
يقف قابضاً على دينه كالقابض على الجمر، في مجتمع شارد عن القيم والدين، وهم يهزءون به ويسخرون، فيقول بقول من سبقه في موكب الإيمان العريق، والطريق الطويل: {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود:٣٨] ويتلمح نهاية الموكب الفائز الوضيء، ونهاية القافلة البائسة في قول الله: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} [المطففين:٣٤] {عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ} [المطففين:٣٥] {هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المطففين:٣٦].
بهذا الشعور، وبتلك القيم ارتقت الأمة في نظامها وأخلاقها وحياتها وكل شئونها إلى قمة سامية سامقة، لم ترتفع إليها من قبل قط، ولم ترتفع إليها من بعد إلا في ظل منهاج ذلك الجيل.
فانهض فقد طلع الصباحُ ولاح محمر الأجيمْ
وشتان ما بين السماء والسماوة