الصورة الأولى: علم عمر -رضي الله عنه- أنَّ الخلافة أمانة لا استعلاء، وتكليف لا تشريف، وغُرْمٌ لا غُنْم، فقام يمشي في الأسواق بلا مواكب ولا مراكب، يطوف الطرقات، ويقضي حاجات الناس ويقضي بينهم، يَخْلُفُ الغزاة في أهلهم، يتفقد أحوال رعيته، همُّهم همُّه، وحزنهم حزنه، لينٌ قوي، حازم رحيم، راعٍ أمين، يقول تحت وطأة المسئولية -كما روى مجاهد عن عبد الله بن عمر -: [[لو مات جَدْيٌ بطرف الفرات لخشيتُ أن يحاسب الله به عمر يوم القيامة -وفي رواية- لو عثرت دابة بضفاف دجلة لخشيتُ أن يسألني الله عنها: لِمَ لمْ تُمهِّد لها الطريقَ يا عمر؟]] يا لله! كلمات تدعو للتأمل في شخصية ذلك الرجل الذي ضربت به الأمثال في العدل والزُّهد والحرص على رعاية الأمة بالليل والنهار؛ فلا عبقري يفري فريه.
وبالمناسبة يذكر المؤرخون أن حمامة باضت في فسطاط عمرو بن العاص والي مصر آنذاك، فلما عزم على الرحيل أمر عماله أن يخلعوا الفسطاط، فلفت أنظارهم عش حمامة فيه بيض لم يفرخ بعد، فلم يُزْعِجُوا الحمامة، ولم ينتهكوا حرمة جوارها، بل أوقفوا العمل، وذهبوا إلى عمرو -رضي الله عنه- يعرضون عليه الأمر، ويأخذون رأيه فيها، فقال:[[لا تُزْعِجُوا طائراً نزل بجوارنا، وحلَّ آمنًا في رحالنا، أجِّلُوا العمل حتى تَفْرُخَ وتطير]].
فيا للعظمة! ويا للرحمة! حتى الطير ينعم في ظل الأمن والعدل مع العدول رضوان الله عليهم!
أيها الأحبة: إن المسلم وهو يستعرض مثل هذه المواقف ليأسى ويحزن يوم يصبح المسلم في عالمنا الإسلامي يتمنى أن يحظى بالاهتمام الذي كان يحظى به الحيوان والطير، في زمن عمرو وعمر رضي الله عنهما وأرضاهما.
وأعود فأقول وأكرر مرارًا وتكرارًا: كل ذلك بما كسبت أيدينا، ويعفو الله عن كثير، من هادن الأفعى تجرع سمها يومًا ما.
ثم أثَنِّي فأقول: هنيئًا ثم هنيئًا لمن اكتحلت عيناه برؤية ذلك المجتمع وذلك الجيل، الذي عمَّ عدله الطير والحيوان، اللهم وقد حرمنا رؤيتهم في الدنيا فلا تحرمناها في الآخرة؛ في جنات ونهر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
صورة أخرى: كان يرى مسئوليته عن كل فرد في سربه، وأيِّم في بيتها، ورضيعٍ في مهده، هو القائل:[[ما مثلي ومثل هؤلاء إلا كقومٍ سافروا فدفعوا نفقاتهم إلى رجل منهم، فقالوا له: أنفق علينا، فهل له أن يستأثر منها بشيء؟ قالوا: لا يا أمير المؤمنين! قال: فكذلك مَثَلِي ومَثَلُكُم]].